23-نوفمبر-2023
تصوير يوسف مسعود

(تصوير يوسف مسعود) من غزة

"عليك أن تحذر عندما ترى الجزيرة قسّمت شاشتها لستة أجزاء، فالأمر صار جللًا". انتشرت هذه النكتة في الأوساط الشعبية في أعقاب الربيع العربي، نتيجةً لكثافة التغطية الإخبارية التي نالتها مختلف البلاد العربية عمومًا، وسوريا تحديدًا، منذ عام 2011 مع اشتداد كل انتفاضة أو أزمة أو حرب. ولم يبقَ الأمر حكرًا على الجزيرة، بل صار لدى المشاهد العربي حرية اختيار التغطية التي سيرتهن لها على مدار الساعة مع تفاقم الأزمات.

وُلد مفهوم البث على مدار الساعة عام 1994، عندما انشغلت القنوات التلفزيونية الكبرى في الولايات المتحدة بتغطية وقائع قضية القتل التي عُرفت باسم "أو جيه سيمبسون"، ويُعد ذلك واحدًا من أبرز الأمثلة وأكثرها تدريسًا في تأثير الإعلام على الرأي العام.

ووفقًا للصحفيين السابقين بيل كوفاتش وتوم روزنستيل، فإن بث الأخبار على مدار الساعة جاء نتيجة للمنافسة الشديدة بين المؤسسات الإعلامية على شدّ اهتمام الجمهور وتسمير أعينهم أمام الشاشة، وما ينتج عن ذلك من تدفق لأموال المعلنين، فيما يشبه إلى حدّ كبير طريقة عمل وسائل التواصل الاجتماعي.

ورغم تشابه المشهد الإعلامي وطريقة عمل الإعلام عالميًا، إلا أن هناك فارقًا بسيطًا يحول دون سحب ذلك على الإعلام العربي، وهو أن معظم القنوات التلفزيونية الإخبارية الكبرى في المنطقة العربية، إما ممولة حكوميًا -بشكلٍ كلي أو جزئي- أو أنها تعمل وفق نماذج أعمالٍ لا تقوم على الإعلانات، بشكلها المباشر المرتبط بالانتباه على الأقل.

ما يجري اليوم في فلسطين، من حربٍ إبادة على غزة، واحتقان في الضفة الغربية، يعد الاختبار الحقيقي الأول لمعظم القنوات التلفزيونية العربية الموجودة اليوم

ما يجري اليوم في فلسطين، من حربٍ إبادة على غزة، واحتقان في الضفة الغربية، بكثافته وثقله الإقليمي والعالمي، بالإضافة إلى سرعة وتيرة تسارع الأحداث وتمددها، يعد الاختبار الحقيقي الأول لمعظم القنوات التلفزيونية العربية الموجودة اليوم، إذا استثنينا "الجزيرة" و"العربية" اللاتي غطّتا أحداثًا وحروب لا تقل حجمًا، ولم تبخل حفنةٌ من القنوات بتسخير كوادرها واستديوهاتها ومراسليها لتوفّر الأخبار والتحليلات والمقابلات، والأخبار مجددًا، على مدار الساعة دون توقف.

من المعروف، وفقًا لما أثبتته عشرات الدراسات والأبحاث، أن استهلاك الأخبار يرتفع خلال الأزمات، وخصوصًا من خلال التلفزيون. لكن ما تثبته دراسات متعددة أيضًا هو أنه كلما زاد استهلاكنا للأخبار أثناء أو بعد وقوع مأساة أو أزمة أو كارثة طبيعية، زاد احتمال ظهور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة. واليوم، أكاد لا أعرف أحدًا لا يعاني من اضطراباتٍ في النوم منذ شهر على الأقل، وليست هذه المشكلة الأكبر.

رغم وجود الإنترنت الذي يخوّلك للحصول على الأخبار والتحديثات لحظة بلحظة، ما زالت -حتى الآن على الأقل- التغطية التلفزيونية الخاصة على مدار الساعة تحتفظ بمكانتها في صدارة مصادر المعلومات عند تأزّم المشهد، ولا يعود ذلك للسرعة وحسب، بل الرأي والاستقطاب والقدرة على استمرار تحفيز المشاعر. يمكنك الحصول على الـ "ماذا" بشكلٍ أسرع عبر الإنترنت، ولكن من الأصعب الحصول على الـ "كيف" والـ"لماذا"، بالإضافة إلى التعليق المستمر على ما يجري ومآلاته. لذا، تستعير القنوات الإخبارية حيل البرامج الحوارية الإذاعية التي تبث على مدار 24 ساعة، ليصبح الأمر "مثيرًا"، وإن اختلف تعريف الإثارة في سياق المأساة الجارية.

الآراء المثيرة وقود الاستقطاب، فعندما تشاهد مداخلة لمتحدث باسم كتائب القسام على سبيل المثال على إحدى الشاشات، لن تستطيع تلك الشاشة الاحتفاظ بمُقلتي عينيك إلا بمقابلة نظيرة مع أفيخاي أدرعي، وهذا ما يحدث منذ شهر وحتى الآن. من المؤكد أن البث سيوفر لك دومًا الرأي الذي تتفق معه، والآخر الذي يجعلك تشعر بالإحباط أو الغضب.

كل شيء يتعلق بالأخبار، بدءًا من العناوين الدرامية إلى الموسيقى الخلفية المؤثرة وحتى الألوان التي تظهر على الشاشة (التي يطغى عليها الأحمر، الذي يتفق الخبراء على أنه اللون الأكثر شحنًا بالعواطف) وصوت الإشعارات مع كل شريطٍ عاجل يظهر أسفل الشاشة، تم تصميمه لاستغلال دوافعنا الصلبة للانتباه إلى ما يبدو للدماغ مثيرًا ومهمًا. ورغم فظاعة ما يحدث اليوم في فلسطين، الطريقة المجرّدة التي يعمل بها نظام المكافآت في دماغنا يجعل استهلاكنا المتواصل لهذه الأخبار محفزًا أول لإطلاق الدوبامين والأدرينالين، ما يفسر الرغبة في استمرار التجربة.

معظمنا ليسوا صحفيين أو سياسيين أو عاملين في مراكز أبحاث، فما الدور الذي يؤديه طوفان العواجل والتحليلات والمقابلات الذي لا ينتهي سوى دورة لا نهائية من الدوبامين، الذي يتغذى على العجز الذي يُنتج تسمّرًا أطول أمام الشاشة، ويعمّقه؛ في حالة أسرٍ لدى نظام "مكافآت" ليست بالمكافآت على الإطلاق؟ وما الذي تضيفه هذه التغطية على مراجعة الأخبار مرتين في اليوم مثلًا؟

أما بالنسبة للسؤال الذي قد يبدو الأهم "ماذا عن المال؟"، سواءً كان مصدره الدول الممولة أو المنظمات الدولية أو حتى المعلنين والمستثمرين، والذي يتطلب تضخم المشاهدات، فكيف نعرف أن الأشخاص لن يستمروا بالمشاهدة إذا كانت الأخبار مصممة للبشر ككائنات معقدة ذات تفضيلات واهتمامات حقيقية، لا مجرد أنظمة عصبية قائمة على ردات الفعل اللاإرادية؟ كيف نعرف إذا لم يحاول أي شخص تقريبًا معرفة الإجابة؟

ليست هذه دعوة للتوقف عن مشاهدة الأخبار. بل فقط إعادة تفكير بدورة الأخبار على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع التي قد تضر أكثر مما تنفع. إذ يمكن لها في شكلها هذا أن تكبّل الناس وتربكهم وتخلق الوهم بأن "مواكبة ما يحدث لحظة بلحظة" وانتظار ما يتلوه هو كل ما يمكن فعله في ظل العجز السائد، رغم أن ذلك ليس الخيار الوحيد ولا الأكثر جدوى. فبدلًا من القلق بشأن انزلاق حرب غزة إلى حربٍ إقليمية، واليأس من انسداد الأفق السياسي للقضية الفلسطينية، يمكن إحياء النضال لإعادة الحق السياسي المشروع للفلسطينيين، على اعتبار ذلك يوازي "الحق المعيشي" أهمية، وبدلًا من شتم الغرب ونبذ "ازدواجيته" مع كل عاجل عن تصريحات البيت الأبيض، يمكن الضغط على الحكومات العربية للمسارعة في استخدام أوراقها (وما أكثرها) لوضع حدّ للمجزرة والتحرّك لمحاسبة المسؤولين عنها.