19-يناير-2024
(Getty) نازحون في خان يونس

(Getty) نازحون في خان يونس

هناك ما يشبه الإجماع أن معركة خان يونس ستكون معركة كسر عظم، حيث زجّت قوات الاحتلال الإسرائيلي بسبعة ألوية، من ضمنها لواء للنخبة، في مواجهة عناصر المقاومة الفلسطينية، في المدينة الواقعة جنوب غزة، إذ تُمثّل هذه المعركة التحدي الأكثر تعقيدًا الذي يواجه جيش الاحتلال حتى الآن.

نقل مراسل صحفية "وول ستريت جورنال" مشاهداته للمعركة في تقرير، حيث سجّل حديث قائد فرقة المظليين 98، الجنرال دان غولدفوس، لجنوده عن أن المهمة شاقة.

وكُلّف غولدفوس بالهجوم على مدينة خان يونس، إذ تحاول قواته "المناورة من أجل ذلك اكتشاف المتاهة في قطاع غزة، وتقويض المقاومة التي بنت شبكات غير معروفة من الأنفاق"، بحسب ما تقول الصحيفة الأمريكية.

تشير "وول ستريت جورنال" إلى أن الجيش الإسرائيلي يسيطر إلى حد كبير على شمال غزة، بعد أن أدى القصف العنيف إلى تحويل الكثير من مناطقه الحضرية إلى أنقاض. ومع ذلك تستمر المقاومة في الشمال، رغم منقتل آلاف المدنيين ونزوح معظم سكانه جنوبًا.

ومع تقدم القوات الإسرائيلية نحو الجنوب راحت تواجه مأزقًا، بسبب اكتظاظ المنطقة بالنازحين، في الوقت الذي يتصاعد فيه التنديد الدولي نتيجة الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين، وهو ما يزيد من الضغط على "إسرائيل" لتغيير تكتيكاتها.

بعد أن تجمع الناس في جنوب قطاع غزة، لا تستطيع إسرائيل أن تفعل ما فعلته في الشمال دون وقوع مئات الآلاف من القتلى، وهو أمر لن تدعمه الولايات المتحدة

وبحسب الصحيفة الأمريكية، يُدفَع ما يقرب من مليوني نازح إلى مربعات صغيرة غير مسبوقة في القطاع، وهو ما قد ينتهي بالعملية لوقف إطلاق النار، لكنه يسمح أيضًا لحماس بالبقاء والتعافي، بشكل يمثّل هزيمة إستراتيجية لإسرائيل. لكن الأمر يمكن أن ينتهي بحمام دم أكبر مما حدث في الشمال.

وقال كبير الباحثين المقيمين في معهد دول الخليج العربي، وهو مركز أبحاث في واشنطن، حسين إبيش: "الآن بعد أن تجمع الناس في الجنوب لا تستطيع إسرائيل أن تفعل ما فعلته في الشمال دون وقوع مئات الآلاف من القتلى، وهو أمر لن تدعمه الولايات المتحدة".

وفي الوقت نفسه، تقول "وول ستريت جورنال"، إن المأزق السياسي بين الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة ودول المنطقة حول من يجب أن يدير غزة يُعقّد الحرب أيضًا. فغياب حكومة في غزة يجعل من الصعب تقديم المساعدات الإنسانية، أو استعادة النظام والخدمات الأساسية، أو تسهيل عودة السكان إلى الشمال. وتخشى "إسرائيل" من أن حماس ستحاول استغلال الفراغ والعودة إلى المناطق التي ينسحب منها الجيش الإسرائيلي.

وعدت "إسرائيل" الولايات المتحدة، حليفها الحيوي، هذا الشهر، بأنها ستحارب حماس بطريقة أكثر تركيزًا في جنوب غزة، مما يقلّل من شدة الضربات الجوية، التي كانت الولايات المتحدة تضغط من أجلها. لكن الجيش الإسرائيلي أيضًا تحت الضغط في "إسرائيل" لعدم التخلي عن هدف "تدمير حماس". إلا أنّ كبار الضباط يحذرون من أن القتال قد يستغرق عدة أشهر أخرى.

النزوح جنوبًا

لا يعرف العديد من المدنيين الفلسطينيين أين سينتهي بهم الأمر. غادر ناصر قاسم منزله في مدينة غزة في الشمال، حيث كان يملك متجرًا للعطور، في 8 تشرين الأول/أكتوبر، لم يكن لدى ناصر وقتًا كافيًا سوى لحزم المستندات والطعام والمال لديه والذهاب مع أطفاله الثلاثة، وأضاف أن الحي سُوِّيَ بالأرض بعد ساعات.

انتقل قاسم بعد ذلك مع والديه المسنَّين وإخوته وعائلاتهم إلى منزل فارغ يملكونه في خان يونس. عانت الأسرة من برد الشتاء بسبب نقص الملابس. وقال قاسم إنه فتش المتاجر الفارغة في المدينة، وعثر في نهاية المطاف على ملابس كبيرة الحجم لأطفاله، ولكن لم يجد أي شيء لنفسه.

كانت خان يونس مكتظة بلاجئي الشمال، لكن سرعان انتقل الكثيرون منها خوفًا من أن تكون المدينة الهدف التالي لإسرائيل. في منتصف كانون الأول/ديسمبر، انتقل قاسم وعائلته إلى الجنوب أيضًا. وأوضح: "يمكننا سماع الاشتباكات طوال الوقت"، وأضاف: "غادرنا قبل أن تتكثف الاشتباكات."

لا يعرف قاسم ما إذا كان منزله في خان يونس لا يزال قائمًا، إذ قال: "نحن نعلم أن المنطقة شهدت قتالًا عنيفًا".

أهمية خان يونس

تعتبر مدينة خان يونس ثاني أكبر مدينة في قطاع غزة، وهي المدينة التي خرج منها العديد من كبار قادة حماس، بما في ذلك رئيس المكتب السياسي للحركة في غزة، يحيى السنوار، الذي تقول "إسرائيل" إنه العقل المدبر لهجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.

ويعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن السنوار يختبئ في مكان ما داخل الأنفاق في خان يونس، إلى جانب بعض المحتجزين المتبقين.

يعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن يحيى السنوار يختبئ في مكان ما داخل الأنفاق في خان يونس، إلى جانب بعض المحتجزين المتبقين

 

بدأ القتال في المدينة في كانون الأول/ديسمبر، عندما سيّطرت القوات الإسرائيلية على طرق الوصول الرئيسية. ومنذ ذلك الحين، دفعت الفرقة 98 بقواتها إلى ضواحيها الشرقية الرملية، ومركز المدينة المدمج. مع سبعة ألوية قتالية كاملة، ويقود الجنرال دان غولدفوس الآن أكبر فرقة في تاريخ "إسرائيل".

وكمثل العديد من العسكريين الإسرائيليين، أعرب غولدفوس عن إحساسه بالعار إزاء نجاح حماس في هجومها يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. وقد فشلت الأجهزة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية المتفاخرة في منع الهجوم على مستوطنات غلاف غزة وقواعد جيش الاحتلال، فيما كان رد فعل الجيش في ذلك اليوم بطيئًا وفوضويًا. 

وفي نفقٍ قريب، زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه عثر على شعر وملابس وأمتعة شخصية لبعض المحتجزين الذين أُطلِقَ سراحهم في تشرين الثاني/نوفمبر.  وقال إن عمليته كانت في المقام الأول لإنقاذ المحتجزين المتبقين. ولكن حتى الآن، لم تتمكن "إسرائيل" من تحرير أي أسير في غزة خلال العملية العسكرية.

فوق الأرض، كشفت شمس الشتاء عن تأثير قوة النيران الإسرائيلية. فقد تحطمت المساكن القريبة من الممر السري للنفق بسبب، وسويت بعض الشوارع بالأرض بسبب القصف، وسُمع دوي المدفعية ورشقات نارية من الهليكوبتر حربية.

"الشدة موجودة، ولكنها مركزة، ومسيطر عليها"، يدعي غولدفوس، لكنه يعترف بأنها "ليست بنفس المستوى كما هو الحال في الشمال".

حرثت جرافات الجيش المسارات الرملية في المنطقة لإنشاء طرق سريعة للدبابات الإسرائيلية. وعلى طول الطريق بحثت القوات الإسرائيلية عن أي علامة لحماس. "لم يكن هناك شيء"، تقول الصحيفة الأمريكية.

يدعي الجنرال الإسرائيلي أن هناك أربعة كتائب لحماس في خان يونس، وقامت قواته بتدمير أو ضرب الكتيبة العاملة في شرق المدينة. واعترف أن الكتيبة في جنوب المدينة لا تزال نشطة.

أما الكتيبة العاملة في غرب المدينة فهي توجد في وسط منطقة مليئة بالنازحين. وقال غولدفوس: "سيتعين علينا اتخاذ قرارات".

تشترك الوحدات الإسرائيلية في خريطة رقمية يتم تحديثها باستمرار حول مكان وجود المدنيين. وتظهر الكتل المشفرة بالألوان المناطق المزدحمة بالنازحين والمناطق التي أفرغت.

يواصل غولدفوس سرد ادعاءاته للصحيفة الأمريكية، قائلًا: "عندما أناور، يؤخذ ذلك في عين الاعتبار، وعندما أخطط لعملية، أفكر أولًا في الهدف العسكري، ثم أفكر في السكان وما الوسائل التي يمكننا وضعها في هذا الجهد"، ويواصل:"إنه ألم كبير عندما تعرف أنك قتلت المدنيين عن طريق الخطأ، أنت تحمل ذلك معك". وألقى باللوم على حماس في استخدام "السكان كدروع بشرية"، وهي التهمة التي نفتها حماس.

وقال: "إشعارات إخلاء الجيش الإسرائيلي في خان يونس تصل لحماس أيضًا. أخبرهم أنني قادم إلى منطقة، وأعلم أنهم سيستعدون."

لم يتبق أي مدنيين تقريبًا في شرق خان يونس. فر معظم السكان إلى منطقة في غرب المدينة، التي يدعي الضباط الإسرائيليون، إنها "منطقة أكثر أمانًا". وتوجه عدد أكبر من النازحين إلى رفح على الحدود الجنوبية لقطاع غزة. وحتى الآن، نزح الكثير من الناس أكثر من مرة.

توجد عائلة قاسم الآن في رفح، كانوا محظوظين: سمح لهم صديق باستخدام منزله مجانًا، وهو أمر نادر في رفح المكتظة، حيث ارتفعت الإيجارات. ويقول السكان المحليون إن الشقق التي كانت تكلف 200 دولار أمريكي شهريًا قبل الحرب باتت تكلف الآن 2000 دولار.

تضاعف عدد سكان رفح التي كان يقيم فيها الحرب 300 ألف نسمة، ليرتفع إلى حوالي 1.3 مليون نسمة. ويعيش معظم النازحين في الخيام. في أجزاء من المدينة، ولا توجد مساحة متبقية. ويخشى الكثير من سكان رفح أن تصبح مسرحًا للهجوم الإسرائيلي النهائي، مع وجود كتلة بشرية ضخمة في المنطقة.

قال قاسم إنه سئم من الجري والتنقل والنزوح بحثًا عن الأمان، ولا يريد أن ينتهي به المطاف في خيمة في شبه جزيرة سيناء المصرية، وختم: "لن أذهب إلى أي مكان بعد هذا، حتى لو كنت سأقتل".