28-أكتوبر-2023
احتجاج في تونس قرب السفارة الفرنسية ضد موقف ماكرون من العدوان على غزة

تحرك في تونس العاصمة قرب السفارة الفرنسية يوم 24 أكتوبر 2023 تنديدًا بالموقف الفرنسي وزيارة ماكرون إلى إسرائيل (ياسين القايدي/الأناضول)

"بدك تصير مثقف؟ لازم تكون مثقف مشتبك وإذا ما بدك تشتبك لا فيك ولا في ثقافتك". قالها الثائر والناشط والمثقّف الفلسطيني باسل الأعرج، ذات يوم، قبل اغتياله من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية في السادس من مارس/آذار سنة 2017. 

يعود هذا النقاش مؤخرًا إبان صدور مواقف عن عدد من المثقفين العرب المقيمين خاصة في فرنسا، وذلك من العدوان على قطاع غزة والتطورات على الأراضي الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وهي المواقف التي كانت مغايرة تمامًا لمظاهرات الشعوب العربية على الأرض.  

شعبيًا، صب التونسيون غضبهم تنديدًا بالعدوان على غزة أمام سفارة فرنسا ومعهدها الثقافي مطالبين بطرد السفير وسفراء دول غربية أخرى لكن كان لجزء من المثقفين العرب توجهًا آخر تمامًا

كان لافتًا توجه المتظاهرين ضد العدوان على قطاع غزة، في دولة مثل تونس، المستعمرة الفرنسية سابقًا، إلى مقرين أساسيين هما السفارة الفرنسية في قلب العاصمة التونسية، تحديدًا في شارع الحبيب بورقيبة، والمعهد الثقافي الفرنسي في وسط العاصمة أيضًا، وبدرجة أقل نحو السفارة الأمريكية. وقد هتفوا في أكثر من مناسبة مطالبين بطرد السفير الفرنسي وسفراء دول غربية أخرى. 

وعلى حائط المعهد الثقافي الفرنسي، كتب نشطاء تونسيون دعمًا لفلسطين فتم منعهم من ذلك ثم توجهوا لاحقًا لعرض أفلام ليلًا على الحائط المذكور فيما أطلقوا عليه "أيام سينما المقاومة. وقالوا إن الاختيار تم بشكل قصدي "كرسالة لفرنسا وللعالم الغربي وما يروجونه من أكاذيب واتهامهم كل من يدافع عن تحرر أرضه بالإرهاب مثلما وقع مع حركات التحرر الوطني سابقًا".

تحرك في تونس العاصمة قرب السفارة الفرنسية يوم 24 أكتوبر 2023 تنديدًا بالموقف الفرنسي وزيارة ماكرون إلى إسرائيلتحرك في تونس العاصمة قرب السفارة الفرنسية يوم 24 أكتوبر 2023 تنديدًا بالموقف الفرنسي وزيارة ماكرون إلى إسرائيل

تحرك في تونس العاصمة قرب السفارة الفرنسية يوم 24 أكتوبر 2023 تنديدًا بالموقف الفرنسي وزيارة ماكرون إلى إسرائيل (صور ياسين القايدي/الأناضول)

 

تعددت التفسيرات للوجهة المختارة للتظاهر ومن بينها مشاعر العداوة للمحتل السابق ومحاولة مطابقتها مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وعدوانه، هذا بالإضافة للموقف الفرنسي الرسمي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري والذي كان داعمًا بشكل واضح لإسرائيل ويتعارض كليًا مع الموقف الرسمي والشعبي التونسي. 

على عكس نبض الشعوب، كانت مواقف العديد من "المثقفين" العرب في الإعلام الفرنسي، ذات توجه مغاير ولاقت استنكارًا شعبيًا واسعًا

لكن على عكس نبض الشعوب، كانت مواقف العديد من "المثقفين" العرب على موجات وفي أستوديوهات وصحف الإعلام الفرنسي ومن خلال تدويناتهم، ذات توجه مغاير ولاقت استنكارًا شعبيًا واسعًا. من بين هؤلاء نسلط الضوء على تصريحات ومواقف ثلاث شخصيات معروفة وبارزة عربيًا: أستاذ العلوم السياسية والكاتب التونسي حمادي الرديسي، الكاتب المغربي الطاهر بن جلون والكاتب الجزائري محمد مولسهول، المشهور باسم ياسمينة خضرا.

  • حمادي الرديسي: من الصعب انتقاد حماس في تونس والرأي العام يشهد تطرفًا تدريجيًا

تابع جزء مهم من التونسيين تصريحات أستاذ العلوم السياسية والكاتب التونسي حمادي الرديسي، يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في برنامج "قضايا دولية" على إذاعة فرنسا الثقافية، والتي تمحورت حول قوله إن "الأحداث التي وقعت لا يمكن وصفها. ليست أقلية من المثقفين العرب فقط من تقول ذلك. بل حتى ممثلي فلسطين" وتابع من جانب آخر أن "إسرائيل قامت بأعمال تنتهك القوانين الدولية للحروب".  

وفي علاقة بتونس، يقول الرديسي إنه "من الصعب انتقاد حماس في تونس، حيث أن الغالبية العظمى من السكان ملتزمة بالقضية الفلسطينية.. والمظاهرات الوحيدة المسموح بها، في الأنظمة العربية الاستبدادية، هي تقريبًا تلك المناهضة لإسرائيل.. وفي نظر الرأي العام التونسي تبدو الرؤية الفرنسية لصالح إسرائيل إلى حد كبير". 

أما تفسيره للتظاهر أمام السفارة الفرنسية في تونس والمطالب بطرد السفير، فيقول الرديسي إن "هذا ليس مطلباً حزبياً سياسياً وإنه ترجمة للعبارة الشهيرة "ديغاج/إرحل"، معتبرًا أنه لا يفضل إعطاء "هذا العرض العدائي أهمية أكبر مما ينبغي"، مشددًا على قلقه إزاء "حقيقة أن السلطات التونسية تتوافق مع التعبير عن المشاعر المعادية لفرنسا، في حين أنه في العادة تلعب السلطات دور تمثيل الأمة بأكملها، فيما يتعلق بالعالم الخارجي".

حمادي الرديسي: هناك تشدد تدريجي للرأي العام في تونس، يبعدنا عن الإرث التاريخي الذي دعم حل الدولتين

وأكد الرديسي أن تونس من الدول المعارضة بشدة لمعاهدات التطبيع التي حصلت خلال السنوات الأخيرة بين إسرائيل من جانب، والإمارات والبحرين والمغرب من جانب آخر، مضيفًا أن "هناك تشددًا/تطرفًا تدريجيًا للرأي العام في تونس، يبعدنا عن الإرث التاريخي الذي دعم حل الدولتين". 

وأشار لحادثة لم نستطع التثبت من صحتها مؤخرًا في علاقة "بتدمير أضرحة يهودية في جنوب تونس" خاصة مع التزام ممثلي الجالية اليهودية في تونس الصمت إزاءها، قائلًأ إن "تدمير أضرحة يهودية في تونس دون رد فعل من السلطات يجعلني أشعر بعدم الارتياح. البلاد تسير في اتجاه ليس هو الاتجاه الذي أريده"، وفق تعبيره.

المتابع للرأي العام العربي وخاصة التونسي يتبيّن سريعًا أن الرديسي كان يتحدث بعيدًا عن صدى الشوارع العربية. الأخير سارع الخميس 26 أكتوبر/تشرين الأول الجاري لمحاولة توضيح ما ورد على لسانه، عبر التدخل في إذاعة الديوان المحلية، قائلًا إنه "لم يصف حماس بالإرهابية ولم يعتبر الموقف الفرنسي عادلًا ومتوازنًا"، مضيفًا أنه "ليس سفيرًا مفوضًا لتونس وهو ينقد عندما يقتضي الأمر ذلك".

  • الطاهر بن جلون: القضية الفلسطينية أُغتيلت يوم 7 أكتوبر وما فعلته حماس لم تكن لتفعله الحيوانات

قبل تصريحات الرديسي في الإعلام الفرنسي، كان الكاتب المغربي الفرنسي الطاهر بن جلون محل الأنظار عربيًا بعد مقال له في صحيفة "لوبوان" الفرنسية، بتاريخ 13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وهي الصحيفة ذات التوجه اليميني، وهو المقال الذي هاجم فيه بن جلون حركة حماس معتبرًا أن "ما فعلته لم تكن لتفعله الحيوانات" واصفًا أنهم "بلا ضمير، بلا أخلاق، وبلا إنسانية"، ومؤكدًا أن القضية الفلسطينية قٌتلت في اليوم الذي شنت فيه حماس هجومها على مستوطنات إسرائيلية.

الطاهر بن جلون: "ماتت القضية الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، أغتيلت على يد عناصر متعصبة، غارقة في أيديولوجية إسلامية من أسوأ الأنواع"

يقول بن جلون في مقاله "أنا عربي ومسلم بالميلاد والثقافة والتعليم المغربي التقليدي، لا أستطيع أن أجد الكلمات لأعبر عن مدى رعبي مما فعله مسلحو حماس.. همجية ليس لها أي مبرر أو عذر.. أعتقد أنه يمكننا مقاومة الاحتلال ومحاربة الاستعمار، ولكن ليس بهذه الأعمال الوحشية الكبيرة"، وفقه.

ويتابع "ماتت القضية الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، أغتيلت على يد عناصر متعصبة، غارقة في أيديولوجية إسلامية من أسوأ الأنواع.. حماس هي العدو، ليس للشعب الإسرائيلي فحسب، بل للشعب الفلسطيني أيضًا.. إن احتجاز الرهائن وابتزاز إعدامهم لا يؤدي إلا إلى تفاقم غضبنا جميعًا".

ويضيف "هذه الوحشية تأتي من بعيد. بالتأكيد من الاحتلال والإذلال الذي تعرض له الشباب الذين لا مستقبل لهم، وسرعان ما استولت عليهم حركة إسلامية تعتمد على حسن نية إيران.. تغلغلت الهمجية في مخيلتنا، ومن الصعب اليوم أن نصدق أن هؤلاء الرجال فعلوا ذلك من أجل "تحرير" منطقة ما. لا، الحرب تدور بين الجنود. وليس بقتل المدنيين الأبرياء"، وفق تعبيره.

الكاتب المتحصل على جائزة غونكور، أهم جائزة أدبية في فرنسا، أثار غضبًا واسعًا وكان موقفه في تناقض تام مع شعوب خرجت بأعداد مهولة للشوارع مؤكدة استرجاع القضية الفلسطينية لمكانتها فيما نظر بن جلون لاغتيالها.

  • ياسمينة خضرا: لا فرق بين ما قامت به حماس وما تقوم به إسرائيل

في سياق مشابه، ساوى الكاتب الجزائري المقيم في فرنسا محمد مولسهول، المعروف باسم ياسمينة خضرا، بين الطرفين في تدوينة مطولة على صفحته الرسمية بفيسبوك، قال فيها إن "من يفرح بما قامت به حركة حماس لا يستحق أن يكون إنسانًا".

علّل ياسمينة خضرا موقفه ممّا يجري في غزة، بالقول إن حماس قد "ذبحت المدنيين الإسرائيليين بلا رحمة، لقد تم القضاء على عائلات إسرائيلية، دون سابق إنذار أو ضبط النفس، ومن يفرح به لا يستحق أن يكون إنسانًا".

ياسمينة خضرا: "لا فرق بين ما قامت به حماس وما تقوم به إسرائيل بالأمس، تم دفن اليهود أحياء. واليوم، الغزاويون مدفونون تحت الأنقاض. غدًا لن يبقى أحد ليدفن أحدًا"

واستدرك "رد فعل إسرائيل يتجاوز الفهم، إن التفكير في الأمر هو بالفعل تجديف يصم الآذان في صمت الضمائر. ضمائر؟ هل ما زالوا موجودين؟ أشك. حبس الناس في "غيتو" لدهور، وحرمانهم من الماء والكهرباء والغذاء عن طريق قصفهم ليلًا ونهارًا، دون تمييز ودون هدنة، وسحقهم في نفس نبع النار والفولاذ الأمهات والأطفال والشيوخ والمرضى والأطفال إن هذا ليس الرد الصحيح على الهجمات، مهما كانت وحشية، من جانب حماس".

وختم: "لا فرق بين ما قامت به حماس وما تقوم به إسرائيل بالأمس، تم دفن اليهود أحياء. واليوم، الغزاويون مدفونون تحت الأنقاض. غدًا لن يبقى أحد ليدفن أحدًا".

 

يركز جزء من المثقفين العرب في فرنسا وخارجها على توصيف ما حصل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري دون وضعه غالباً في سياقه وكأنه منفصل عن احتلال دام عقودًا وممارساته، وعدم وضع ما حصل في سياقه يُساهم في حالة الانفصال بين المثقف والشارع، الذي خرج منددًا بالعدوان بكثافة حتى في الدول الغربية.

يركز جزء من المثقفين العرب في فرنسا وخارجها على توصيف ما حصل يوم 7 أكتوبر الجاري دون وضعه غالباً في سياقه وكأنه منفصل عن احتلال دام عقودًا 

وقد لا تكون بعض الأفكار المقدمة من هؤلاء المثقفين مغلوطة كالحديث عن توجه نحو التطرف في مجتمعات عربية معيّنة أو سيطرة الشعبوية عليها، لكن طريقة الاستعلاء التي يُقال بها ذلك والمخاطبة عبر وسائل إعلام غربية وبلغة غير العربية تزيد من تعميق الهوة ولا تحدو بالجميع نحو الهدف السليم. 

هناك أمر آخر لافت يجتمع عليه معظم هؤلاء المثقفين وهو الانطلاق في تحليلهم غالبًا، من خارج سياق الاستعمار الذي يعيشه الفلسطيني، في هذه الحالة ومع اختلاف المنطلق تزيد الهوة مع كل خطاب/كتاب/مقال لا تتقلص.  

تخلو تقريبًا المسيرات والمظاهرات في عدة دول عربية من وجوه المثقفين المعروفة وهو ما يطرح أكثر من سؤال عن تخليهم عن دورهم وانحساره في الاستغراب والتخوّف

تخلو تقريبًا المسيرات والمظاهرات في عدة دول عربية من وجوه المثقفين المعروفة وهو ما يطرح أكثر من سؤال عن تخليهم عن دورهم وانحساره في الاستغراب والتخوّف من التشدد عبر مقالات وحوارات بعيدة عن لغة الشارع وشبابه ومن هنا عاد الجدل حول المثقف المشتبك والمثقف العضوي.. في مقابل حال عديد المثقفين من حولنا. 

في الأثناء، أطلق بعض المثقفين العرب بيانات تضامنية مع غزة ومقاومتها للاحتلال وعدوانه لكنها لا تزال تحركات محدودة وبعيدة عن الشارع وعن العامة وعن التأثير والتوجيه السليم لهذه الطاقات المهدورة في الشوارع العربية وحتى الغربية.