12-أبريل-2024
مسلسلات عربية 2024

من المسلسلات العربية 2024

أنتج الإنسان الفنّ منذ زمن قديم جدًّا، ربّما بدأ ذلك مع الرسوم التي وُجدت على جدران الكهوف وتعود إلى آلاف السنين، ومع تقدّم الزمن تطوّر الفنّ وأدوات التعبير وتشعّب وتعدّدت أنواعه، ومع ظهور المسرح، حيث يقوم أشخاص بتجسيد حكاية ما مع الغناء والرقص والموسيقى على منصّة عرض أمام جمهور، صارت للفنّ قدرة أكبر على التعبير، بل صار يُمكن للفنان أن يقول ما يُريده على ألسنة شخصياته التي ابتكرها. ثمّ جاءت السينما ـ الصور المتحرّكة لتُشكّل ثورة فنيّة حقيقية، إذ إنّها جعلت للفنون جميعها إمكانية العرض وإعادة العرض، وأمّنت تصوير الحدث في مكانه الحقيقي وليس على خشبة المسرح.

ومنذ بداية الفنّ رافقه النقد الفنّي، فأنت عندما تعرض عملك الفنّي على الناس لا بدّ لهم من إبداء آرائهم، وتشكّلت مدارس لدراسة الفنّ وتشريحه وتحليله، وتعدّدت الآراء وانقسمت بشأن وظيفة الفنّ، حيث رأى الفيلسوف اليوناني أفلاطون أنّ وظيفة الفنّ تتمثّل في التوجيه إلى ما هو صحيح وعادل وشريف، بينما رأى أرسطو أنّ الانسجام والنظام هما الهدف الأعلى للفنّ، نعم هي نفسها موضوعة المعنى والمبنى الأزلية في النقد الفنّي.

وبشأن وظيفة الفنّ يُمكن تلخيص رأي المفكّر العربي زكي نجيب محمود كما يلي: "لا يجوز للناقد.. أن يسأل عن لوحة - مثلًا - قائلًا: ما مغزاها؟ أو ما معناها؟ لأنه لا مغزى ولا معنى في الفنون، إن الفن "خلق" لكائن جديد. هل نسأل عن جبل أو عن نهر أو عن شروق أو غروب قائلين: ما مغزى؟ وما معنى؟ أو هل ترانا ننظر إلى التكوين وحده معجبين أو نافرين؟ وهكذا ينبغي أن يكون موقفنا إزاء العمل الفني: لأنه خلق وإنشاء، وليس كشفًا عن أي شيء كان موجودًا بالفعل، ثم جاء الفن ليصوره". إذن ليست وظيفة الفنّ نقل الواقع كما هو بل عليه أن يُكثّف ويُقدّم الأفكار ضمن إطار من الجمال السامي.

في الوطن العربيّ حيث شهر رمضان هو الموسم المفضّل لمتابعة المسلسلات، نرى أحاديث الناس تدور حول هذه المسلسلات وشخصياتها، ونقاشهم يدور حول الأفكار والمواضيع التي تطرحها

لن أُسهب في طرح آراء الفلاسفة والنقّاد عبر العصور حول الفنّ ووظيفته، لكنّني أريد أن أذهب إلى الفنّ المنتشر هذه الأيام وهو المسلسل التلفزيونيّ، والذي يؤثّر بشكل كبير في الناس، وفي الوطن العربيّ حيث شهر رمضان هو الموسم المفضّل لمتابعة المسلسلات، نرى أحاديث الناس تدور حول هذه المسلسلات وشخصياتها، ونقاشهم يدور حول الأفكار والمواضيع التي تطرحها، ويتسابق صنّاع الدراما التلفزيونية إلى تقديم أعمالهم في شهر رمضان الذي تكرّس كأنّه مهرجان للدراما التلفزيونية، ويحتفظ الكثيرون بإنتاجاتهم الضخمة لعرضها خلال هذا "المهرجان".

منذ الستينيات دأبت التلفزيونات العربية على إنتاج المسلسلات الدرامية وعرضها على شكل حلقة كل أسبوع، وكانت العادة أن يكون المسلسل مكوّنًا من ثلاث عشرة حلقة بما ينسجم مع دورة البرامج للمحطّات التلفزيونية. ولكن منذ بداية التسعينيات ومع انتشار البثّ الفضائي واكتشاف نسبة المتابعة الكبيرة في شهر رمضان، ظهرت "موضة" الحلقات الثلاثين، وشيئًا فشيئًا تكاثرت هذه المسلسلات، وحفرت مكانها في ذائقة الجمهور. تنوّعت مواضيع المسلسلات بشكل كبير، ولكن كان يُمكن تمييز ثلاثة أنواع رئيسية دأب المنتجون على تقديمها في رمضان: المسلسل الكوميدي، والمسلسل التاريخيّ وغالبًا ما يكون من التاريخ الإسلامي، والمسلسل الاجتماعي المدعّم بخطّ بوليسي لخدمة التشويق.

في أوائل التسعينيات انطلقت الدراما السورية عربيًا عبر مسلسلات تمّ تصويرها خارج الاستوديوهات، وأحدثت فارقًا حقيقيًا لدى المشاهد العربيّ، حيث إنّه تعرّف على شكل جديد من الدراما التلفزيونية تدور أحداثه في الأماكن الطبيعية، وليس في الاستوديوهات. كان السبّاق إلى ذلك المخرج السوريّ هيثم حقّي حيث قدّم مسلسل "غضب الصحراء" عام 1989 وبعده بعام ملحمة "هجرة القلوب إلى القلوب" تأليف عبد النبي حجازي، وهو بذلك فتح الطريق نحو شكل جديد للدراما، لتتوالى بعدها المسلسلات السورية ذات الإنتاج الضخم والتصوير القريب من السينما.

لن أستعرض الأعمال السورية الضخمة التي تتالت منذ ذلك الوقت حتّى اليوم، فهي مائلة في أذهان الجمهور، وحاضرة في وجدانه وذاكرته. ما يهمّني الآن هو المواضيع التي قدّمتها الدراما وكيف تطوّرت. لقد بدأت هذه الموجة الجديدة للدراما العربية بتقديم أعمال تاريخية فانتازية، وأخرى واقعية تقترب من الواقع بشكل كبير، وقد تفاعل الجمهور العربيّ مع هذه الأعمال وأحبّ أبطالها الذين تحوّلوا إلى نجوم مطلوبين للعمل دائمًا، لأنّ المنتجين والمحطّات رأوا فيهم منجمًا يجذب المعلنين. ولكن في عودة إلى وظيفة الفنّ، وإلى ماهيّته أي الكشف عن ما هو جديد وجميل، نجد أنّ السنوات العشر الأخيرة لم تُقدّم سوى عمل أو عملين يُمكن أن نقول إنّهم يحملون هذا الجديد وهذا الجمال. لقد حفلت الدراما العربية بقصص العشوائيات والمجرمين، وقدّمت نماذج منحرفة على أنّهم أبطال، ولم يُعذّب صُنّاع الدراما أنفسهم بسؤال لماذا نصنع هذا؟ لماذا نُقدّم هذه الشخصية الشريرة والمؤذية في دور بطولة ونجعلها تنتصر؟! صار عاديًا أن يكون البطل تاجر مخدّرات أو مقامرًا أو لصًّا محترفًا، وينتصر في نهاية العمل، بل صار البطل الشرير يتصارع مع من هو أكثر شرًّا منه فيتعاطف الناس مع بطلهم رغم عيوبه ويقبلونه.

لن أسمّي مسلسلات بعينها مصرية أو سورية، فقط أدعوكم لمتابعة بعض مسلسلات رمضان لهذا العام، وسوف ترون بأنفسكم نوع الأبطال الذين تُروج لهم هذه الدراما، ولن أسجّل أيّة ملاحظة على غياب القضايا الهامّة عن الأعمال، أو التدليس الواضح عبر خلط الحابل بالنابل بغية تضييع حقيقة الفكرة الأساسية التي يرغب صُنّاع هذه المسلسلات في تقديمها. إنّهم يُجمّلون القبيح، ويلهثون خلف تشويق رخيص عبر مواقف عبثية فارغة، ويُقَوّلون شخصياتهم أقوالًا كبيرة في صيغة وطنيّة أو وعائظية فارغة. الدراما العربية تفتقد للعمق الحقيقي، ليس الأمر أن "نحكي" عن قضيّة كبرى، بل هو "كيف" نحكي.