08-سبتمبر-2023
من أجواء ساحة الكرامة

من أجواء ساحة الكرامة (السويداء 24)

منذ بداية الأحداث السورية في 2011، حصل مع الوقت ما يشبه إجماع نادر في تحييد مدينة السويداء التي تسكنها أغلبية من طائفة الموحدين الدروز. فقد استفادت المعارضة في الجنوب من حياد السويداء عندما تحولت المدينة إلى مأوىً لكثير من العائلات، خاصة من مدينة درعا وريفها المجاور. حيث نزح إلى المدينة في أول سنتين فقط من الحرب حوالي 72 ألفًا. أما النظام فقد كان يعكس واحدة من ركائز شرعيته السياسية التي قامت على حماية الهويات الفرعية للأقليات السورية، كون رأس النظام نفسه ينتمي لواحدة منها.

على الرغم من التوافق الحذر، والهش أحيانًا، على حياد السويداء، شهدت المدنية محاولاتٍ ليست بالقليلة لكسر هذا الموقف، خاصة محاولات من قبل تنظيم داعش للهجوم على المدنية وإخضاعها. إلا أن التماسك الداخلي الذي يكتنف اجتماع الأقلية عادةً كان كفيلًا بتجاوز تلك الحوادث، واحتواء آثارها. فقد تعرضت السويداء لحوادث دامية كادت تخلط أوراق المدينة، مثل اغتيال الشيخ وحيد البلعوس في 4 سبتمبر/أيلول 2015، أحد أبرز مشايخ العقل الذين أداروا موقف الحياد، وأسس "حركة رجال الكرامة" بهدف حماية موقف دروز السويداء من خلال رفض تجنيد الشباب في الخدمة العسكرية الإلزامية. إضافةً إلى التفجيرات الانتحارية يوم 25 يوليو/تموز 2018، والتي أودت بحياة أكثر من 200 شخص، وتبناها تنظيم داعش حينذاك. وفي كل حادثة، كان النظام والمعارضة يتبادلون الاتهام بالمسؤولية.

على الرغم من التوافق الحذر، والهش أحيانًا، على حياد السويداء، شهدت المدنية محاولاتٍ ليست بالقليلة لكسر هذا الموقف، خاصة محاولات من قبل تنظيم داعش للهجوم على المدنية وإخضاعه

لقد جلب الحياد وضعًا مريحًا نسبيًا للسويداء على مدار عقد من الزمن. ولعبت الطائفة الدرزية، شديدة التنظيم الداخلي، سياسة المشي على الحبل المشدود ببراعة خلال تلك الفترة الطويلة. فقد أدار مشايخ العقل الذين يتمتعون بمكانة مجتمعية راسخة، دورًا عاد بفائدة كبيرة على أبناء المدينة، في فترة ربما هي الأصعب في تاريخ سورية المعاصر. وقد سجلت الإحصاءات التي توثق ضحايا الحرب السورية حصة هي الأقل نسبيًا في السويداء، ينطبق هذا على أعداد القتلى والجرحى والمعتقلين. كما يسري بصورة أوضح على حركة النزوح واللجوء من المدينة، حيث لم تشهد السويداء هجرات واسعة لأبنائها خارج البلاد، ولا حتى حركة نزوح داخلي كبيرة، وتمتعت باستقرار اقتصادي أكبر مقارنة بالمحافظات السورية الأخرى خلال الحرب. فقد أسهمت حركة النزوح الداخلي باتجاه المدينة في نمو سوقها التجاري.

كان تبادل الاتهام بالمسؤولية بين أطراف الصراع السوري مع كل حادثة تتعرض لها السويداء مؤشر على رغبة كل طرف في كسر حياد المدينة لصالحه. لكن الحياد استمر حتى نهاية الأعمال القتالية، وقد كان ذلك برهانًا أن الحياد كان ذاتيًا أكثر مما هو بفعل اتفاق خارجي بين أطراف الحرب، والذي وإن كان قائمًا، فقد جاء نتيجة لإرادة داخلية لأبناء المدينة أساسًا. يعزز من هذا التقدير انتشار ظاهرة رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية في عموم السويداء، إذ إن التحاق الشباب سيؤدي بالضرورة إلى الانضمام لجبهات قتال في محافظات سورية أخرى، وهو ما سيهدد بكسر الحياد أو تسويغ مبررات كسره من قبل المعارضة. وقد وصلت أعداد المتخلفين عن الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية إلى حوالي 40 ألف شخص في أرقام غير رسمية نشرتها مصادر إعلامية سورية، في مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 770 ألفًا، بحسب إحصاء 2011. وبقيت قضية التخلف عن الالتحاق بالخدمة العسكرية قضية ذات جدل واسع ومفاوضات مع النظام دون التوصل إلى حل نهائي. إذ ركزت مطالب الرافضين للخدمة على حصر الخدمة الإلزامية لشباب السويداء في المدينة نفسها.

مع انتهاء الأعمال القتالية في أواخر العام 2018، بدأت محاولات المجتمع السوري داخل البلاد إعادة التموضع في شكله الطبيعي ما قبل الحرب، ورغم صعوبة ذلك، وربما استحالته في جوانب أخرى، توقفت حركة النزوح باتجاه السويداء، وعاد معظم أهالي حوران إلى مناطقهم التي شهدت تسويات ضمنت قدرًا من الاستقرار النسبي بما كانت عليه خلال الحرب. كانت هذه بداية مرحلة شقاء جديدة للمحافظات السورية عمومًا كما هو معروف، وللسويداء على وجه الخصوص. فانهيار الوضع الاقتصادي في البلاد بعد انتهاء القتال تفاقم أكثر بعد توقف تدفقات الدعم الحربي لمختلف أطراف الصراع، والتي كانت تنعكس بشكل أو بآخر على القدرات الشرائية، حيث كان لذلك أثر في تأخير تدهور العملة المحلية إلى المستويات التي شهدناها لاحقًا (انتهى القتال في 2018 على سعر 450 ليرة للدولار الواحد، وقد وصل إلى 15 ألف ليرة اليوم).

على الرغم من كون ظروف ما بعد الحرب كانت عامةً في مختلف أنحاء سورية، كانت السويداء في محنة أعمق اقتصاديًا لعدة أسباب. فأولًا لم يخرج عدد كبير من أبناء السويداء كلاجئين مقارنةً بغيرها من المدن التي شهدت تدميرًا وقتالًا عنيفًا. ولا يخفى على أحد في سورية أهمية التحويلات المالية العائلية من قبل اللاجئين السوريين في أوروبا والخليج وتركيا، التي تمثل شريان الحياة الرئيسي للمجتمع السوري اليوم. ففي ظل غياب مؤشر دقيق لحجم هذه التحويلات، إلا أن التقديرات وضعتها حول 300 مليون دولار شهريًا. تكاد تكون حصة السويداء الأقل منها. تزامن هذا مع انخفاض القوة الشرائية في المدينة بسبب عودة نسبة كبيرة من النازحين، أضعفت عودتهم الطلب في السوق المحلي.

في ظل ما سبق، فإن السؤال الجوهري هو، هل تقوم المظاهرات في السويداء في سياق حركة الاحتجاج الأولى في درعا عام 2011، وما تبعها من عسكرة؟

تحاول قوى المعارضة السورية ومنصاتها المختلفة وضع سياق واحد للاحتجاج الممتد بأشكاله المختلفة منذ حوالي 12 عامًا، ولهذا أسبابه التعبوية الوجيهة. وهذه إجابات إن صحت في جانب كونها احتجاجات ذات سياق اجتماعي واحد وموجهة للنظام نفسه، فإنها قد تحتاج إلى مزيد من التروي في اعتبارها امتداد سياسي لحالة واحدة. حتى اليوم لم يرفع متظاهرو السويداء علم المعارضة السورية، وكان واضحًا الحرص على رفع علم الطائفة الدرزية دون غيره للتدليل على خصوصية هذه الحركة، وفي كونها تنبع من مطالب ذات عمق محلي. كما أنها، في الوقت ذاته، مؤشر على حجم التنظيم الذي يتنامى في هذه الحركة الاحتجاجية، التي تمتلك مقومات الضبط بسبب الطبيعة الملتزمة للبنية الطائفية من جهة، وبسبب تراكم رصيد وافر من الخبرة في الإدارة شبه الذاتية على مدار 12 عامًا من الحرب. وأيًا يكن، فإن احتجاجات السويداء قد تعكس سياقات مختلفة لحركتها، لكنها في جانب النظام لا تعكس إلا سياقًا واحدًا، هشاشة دولة ما بعد الحرب.