13-سبتمبر-2023
كاريكاتير لـ بايام بوروماند/ إيران

كاريكاتير لـ بايام بوروماند/ إيران

نال أبي شهادة "السرتفيكا"، وهي تعادل الابتدائية بمصطلحاتنا الحديثة، وكان هذا أمرًا غير قليل في أواسط الأربعينات. ومع ذلك فقد كان الرجل يحيل معظم أسئلتنا، نحن أولاده، إلى معلم المدرسة الابتدائية خريج دار المعلمين، فهناك سوف نعثر على أجوبة لا عن أسئلتنا وحسب، بل وعن أسئلة أبينا أيضًا.

وأذكر مرة أن جدي اصطحبني، وكنت دون العاشرة من عمري، إلى بيت شاب كان قد نال "البكالوريا" قبل سنوات قليلة، وبكّر في اقتناء مكتبة شخصية كانت الأولى في القرية، وربما في تلك الناحية كلها. وبعد سلام مقتضب راح الشيخ يمطر الشاب بأسئلة عن أخبار سمعها صباحًا في "إذاعة لندن"، فهل حقًا أن الحرب النووية يمكن أن تقع بين القوتين العظميين؟ وإذا وقعت فمن سينتصر؟ وبعيدًا عن الأسلحة النووية، فمن بينهما هو الذي يملك عتادًا حربيًا أكثر وأقوى؟ وأيهما أغنى بالثروة الاقتصادية؟ ثم، وهو الأهم، أيهما على حق وأيهما على باطل؟ وأخيرًا هل بالإمكان تسوية الخلاف سلميًا في وقت قريب؟

اليوم صار لدينا "غوغل" و"فيسبوك" وهما وسيلتان عظيمتان للمعرفة.. للمعلومات والأفكار والآراء، ولكن لهما، للأسف، آثارًا جانبية سلبية عديدة، أبرزها: تغييب الإحساس بالجهل

حاول الشاب تقديم إجابات عامة، ولكنه استسلم أمام إلحاح جدي، واعترف بأنها أسئلة صعبة لا يملك إجابات حاسمة عنها. فقام جدي وراح يضرب الكتب بعكازه، قائلًا بغيظ: "وما فائدة كتبك إذا كانت لا تُفهمك ولاتُفهمنا؟!".

لا أتحدث هنا عن شأن عائلي، ولا أريد التلميح إلى أن الفضول والتواضع سمتان متوارثتان في سلالتي، ذلك أن المعلم والشاب إياهما كانا مقصدًا لكل أبناء القرية، وكانا يُسألان في كل شيء تقريبًا: أفضل توقيت لزراعة اليانسون، وأصلح الطرق لمستقبل الأبناء، وما إذا كان من المفيد تعليم البنات، وهل البناء بالإسمنت أفضل أم باللبن، وما إذا كانت الحرب ستنشب قريبًا، وماذا دار بالضبط بين الرئيس الأمريكي والزعيم السوفييتي في اجتماعهما الأخير، وهل السفر إلى ليبيا أفضل أم الهجرة إلى فنزويلا؟

باختصار كانا مستشارين موثوقين وخبيرين كاملي المصداقية في شؤون العالم.. كل شؤون العالم.

وبالطبع فلم يكن هذا مقتصرًا على قريتي. لقد كانت ظاهرة منتشرة في كل الأرياف، وفي بعض المدن ربما.

وإذا كانت السطور السابقة تشي بالحنين، فبالتأكيد هو ليس الحنين إلى تلك النخبة المتعلمة المنقرضة، فما أن خطونا بضع خطوات خارج قرانا حتى تبين لنا كم كانت معرفة هؤلاء بسيطة ومحدودة، بل وساذجة، قياسًا إلى غنى العالم وتعقيده.

إنه الحنين إلى زمن كان فيه إحساس بالجهل، شعور بنقص المعرفة يولد أسئلة، ويدفع إلى استشارة من يُعتقد أنهم أهل المعرفة.

اليوم صار لدينا "غوغل" و"فيسبوك" وهما وسيلتان عظيمتان للمعرفة.. للمعلومات والأفكار والآراء، ولكن لهما، للأسف، آثارًا جانبية سلبية عديدة، أبرزها: تغييب الإحساس بالجهل. إنهما يعطيان لقاحًا ضد الإحساس بالجهل، ويمنحان شعورًا وهميًا وزائفًا بالمعرفة.

فصرنا اليوم هكذا: لا أحد يسأل أحد، ولا أحد يصغي إلى أحد، إذ بتنا على يقين بأننا، وبمجرد كبسة زر، نستطيع أن نعرف كل شيء. غير أن قلائل، في الحقيقة، هم الذين يعرفون حقًا، أما الأكثرية الساحقة فتتناول وجبات معرفية سريعة خالية من الدسم، كبسولات سريعة الهضم سريعة النسيان، معلومات غير مترابطة لا تنشئ رأيًا ولا تصنع رؤية.

في ريبورتاج صحفي نشرته مجلة طبية تحت عنوان "غوغل ليس طبيبًا"، شكا أطباء من أن المرضى صاروا يستشيرون، في أمراضهم، "غوغل"، أكثر من أن يستشيروا أطباءهم

في ريبورتاج صحفي نشرته مجلة طبية تحت عنوان "غوغل ليس طبيبًا"، شكا أطباء من أن المرضى صاروا يستشيرون، في أمراضهم، "غوغل"، أكثر من أن يستشيروا أطباءهم. والأدهى أن المريض لم يعد يكتفي بالقدوم إلى الطبيب ليستعرض أمامه معلوماته الطبية، بل صار يجادله في تشخيصه وعلاجه، "فليست هذه أعراض القولون، كما قرأت على النت، بل أعراض التهاب المرارة.. والثوم أفضل بكثير من الدواء لارتفاع ضغط الدم، وثمة موقع على النت يؤكد أن الخيار والموز يرممان الفتق الحجابي أفضل من أي دواء آخر".

وليس الأطباء وحدهم في هذه الشكوى، ذلك أن المهندسين، والخبراء الزراعيين، وأساتذة التاريخ، وأساتذة العلوم السياسية، ومدربي كرة القدم، والجيولوجيين، ونقاد الأدب.. صاروا مجرد مستمعين لمحاضراتنا في تخصصاتهم التي نعرف عنها (بفضل النت) أكثر منهم بكثير!

ويتذكر الكثيرون ما كان قاله إمبرتو إيكو عن "غزو البلهاء"، معتبرًا أن أدوات مثل "تويتر" و"فيسبوك" تمنح "حق الكلام لفيالق من الحمقى مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل".

 ربما تتعرض هذه الكلمات لتهمة الرجعية، ولكنها ستكون تهمة مجحفة بحقها، فهي لا تندب زمن الجهل "الذهبي السعيد"، بل تعلن الاشتياق إلى زمن كان الإحساس بالجهل لا يزال موجودًا فيه. وكونوا منصفين: ثمة فرق كبير جدًا بين الأمرين.