10-سبتمبر-2023
مقبرة في منطقة الباب قرب حلب

(Getty) مقبرة في منطقة الباب قرب حلب

هناك مشهد حواري جميل يدور بين زوجين من أبطال المسلسل السوري "ليسَ سرابًا"، يُنكر فيه الزوج على زوجته إصرارها على استخدام عبارات مثل "ريتك تقربني" أو "تقبر قلبي" في حالات تعبيرها القصوى عن حبها له أو امتنانها، ويُبدي امتعاضه منها لإصرارها على استخدام هذه العبارات -المليئة بألفاظ الموت- في أكثر المواضع التي تشعر فيها بالحبّ والسعادة والحياة معه، ويُعبّر لها عن استغرابه الكبير من هذا التناقض بين ما تشعر به، وتُعبّر عنه.

دفعني المشهد السابق إلى التفكير في حقيقة هذه الألفاظ (ألفاظ الموت)، وسألتُ نفسي عن إصرار الكثيرين على استخدامها في السياقات العربية، وعن سبب خروجها لاإراديًا من أفواه البعض -أحيانًا- عند رغبتهم في التعبير عن الحالات القصوى التي يشعرون بها اتجاه شخص عزيز يتحدثون معه أو يذكرونه في خطابهم، فهل لذلك كلّه علاقة بتفضيلات متأصّلة في الذهنية العربية تنتصر فيها غريزة الموت على الحياة؟ وهل لتلك الألفاظ علاقة باللغة وسلطتها وكيفية تشكّلها عند الأفراد والمجتمعات؟

وللإجابة على الأسئلة السابقة، فهناك مقولة ترد عن أوسكار وايلد يقول فيها: "خلق الإنسان اللغة ليخفي بها مشاعره"، وفي إطار مناقض لما قاله وايد تقول ألفة يوسف في إحدى كتبها: "خَلَقت اللغة الإنسان لتكشف عن مشاعره"، ورغمَ اتفاقي الكبير مع ما يورده وايلد من أن اللغة قد تكون في بعض الأحيان ستارًا يستخدمه الإنسان ليحجب مشاعره الحقيقية ويخفيها وذلك عندما يستخدم عبارات ملتبسة ومخاتلة، إلا أنني أتفق كذلك مع ما ذكرته يوسف من أنّ اللغة قد تكون في أحيان أخرى وسيلة تعبير تكشف عن الجانب الحقيقي المختبئ في كلّ إنسان، وتُظهره وتبينه للعيان في أشكاله وصفاته وشخصيته الحقيقية كما لو كانت تخلقه من جديد.

توحي كثرة استخدام الألفاظ المتعقلة بالموت وسريانها على ألسنة الأمهات والآباء والعشاق وغيرهم بأنّ هناك انحيازًا داخليًا في الإنسان العربي لغريزة الموت

فاللغة كما وصفتها يوسف في عبارتها السابقة هي الكشاف الأكبر لحقيقة الإنسان؛ لمشاعره وكوامنه، ولتفضيلاته وانحيازاته، فهي وعاء الفكر والمعاني والمعتقدات، بها يُعبّر الأفراد عن ظنونهم وتصوراتهم وتخيلاتهم واعتقاداتهم، فهذه الظنون والتصورات والتخيلات والاعتقادات التي تخرج من أفواه جماعة بشرية ما عبر منظومتهم اللغوية تأتي لتعكس وتُعبّر عن جوهر ثقافتهم أو كما ورد في بحث ثريا خربوش حول "المرأة واللغة": "والثقافة مضمون اللغة ومكنونها ومخزونها المُعبِّر عمّا نظن ونتصور ونتخيل ونعتقد. وحين تختلف الثقافة، يترتب عن ذلك اختلاف الفكر والتصورات والمذاهب والاتجاهات، وينعكس كل ذلك على اللغة، فتختلف، بدورها، ويتمثّل الاختلاف، ليس على مضامينها فقط، بل حتى على الأشكال والصور الحاملة للمضامين".

وبالعودة إلى ألفاظ الموت التي يكثر ترديدها على ألسنة الأفراد في المجتمعات العربية (الشامية تحديدًا)، فإنّ أخذ هذه الألفاظ بعموميتها يوحي بأنّ الثقافة العربية فيها تجذّر للموت ومفاهيمه، فهيَ تخرج وتسري على ألسنة أفراد تلك المجتمعات بشكل تلقائي في أوقات الشعور بالحالات القصوى اتجاه أشخاصهم العزيزين، فتقول الأم لابنها لحظة شعورها بتعاظم حبها اتجاهه "تقبر قلبي"، ويقول الحبيب لحبيبته لحظة شعوره بتنامي عشقه لها واعتلائها عرش قلبه: “ريتك اتكفنيني" وغيرها.

توحي كثرة استخدام هذه الألفاظ وسريانها على ألسنة الأمهات والآباء والعشاق وغيرهم بأنّ هناك انحيازًا داخليًا في الإنسان العربي لغريزة الموت ("ثناتوس" كما يُشار إليها في الأساطير اليونانية)، حيثُ يأتي هذا الانحياز على حساب كلّ غريزة حياة وحبّ داخله ("إيروس" كما يُشار إليها في الأساطير اليونانية)، وربّما يكون لهذا التفسير وجاهة بشكل أو بآخر، لكنّ بأخذ السياقات اللحظية التي تُقال فيها هذه الألفاظ وتكون غالبًا في لحظات يشعر فيها الإنسان العربي بأقصى مشاعر الحبّ والحياة فيُمكن الرجوع إلى عبارة ألفة يوسف التي ذُكِرت سابقًا والانطلاق منها من أجل التأكيد على سلطة اللغة وسطوتها في تلك اللحظات.

لعلّ اللحظة التي تخرج منها ألفاظ الموت على لسان الإنسان العربي هي لحظة تُمارس فيها اللغة سطوتها عليه فتجعله يتذكّر سلطة الموت في أكثر لحظاته حياة، وتجعله يُبادر بتمنيه في مختلف أطواره (تقبرني، تكفني، تقبشني وهي مشتقة من القبشة التي يُربط فيها كفن الميت وغيرها) إن كان سيكون على يد الشخص الذي يُحبّه، وكأنّ هذه اليد هي يدُ اللغة وهي تُمسك الإنسان وتشدّه من لسانه، وتقترح عليه أن يَستحضر كلمات الموت وألفاظه، لا لشيءٍ، سوى أن يعبّر من خلالها عن خلقه من جديد في لحظاتٍ يكون فيها في أوجِ شعوره بالحياة!