17-يونيو-2020

تسلط عزة الحسن الضوء على الجانب الإنساني من سيرة أسمهان (فيسبوك)

القاهرة لم تعد كما كانت، "ها عيش بيها إزاي؟"، هكذا تقول المطربة دينا الوديدي في أولى مشاهد فيلم "أسمهان" للمخرجة عزة الحسن، ولكنها تردف قائلة بما معناه: لكنني أحبها وليس باستطاعتي أن أقاوم سحرها.

القاهرة التي كانت ساحرة هي بطلة الفيلم، القاهرة الجذابة، المغناج، اللعوب، لؤلؤة العصر. القاهرة التي آوت الكثير من المبدعين وقهرت الكثير منهم

القاهرة التي كانت ساحرة هي بطلة الفيلم، القاهرة الجذابة، المغناج، اللعوب، لؤلؤة العصر. القاهرة التي آوت الكثير من المبدعين وقهرت الكثير منهم. القاهرة التي حاولت أسمهان قهرها وانتهت مقهورة فيها ومنها. لنتكلم قليلًا عن أسمهان قبل أن نغوص في فيلم عزة الحسن البديع: الأميرة التي هجرت إمارة وبنت مجدًا كبيرًا في بلاد الشام بموهبتها الفذة ومن ثم احتلت مدينة القدس المقدسة بسحرها وسحر صوتها، لم يكن لديها حلم إلا اجتياح العاصمة المصرية، هوليوود الشرق ومطمح كل من عزف نوتة أو غنى مقامًا.

اقرأ/ي أيضًا: أسمهان.. تلك القصيدة السكرانة بحبّ الحياة

أسمهان القوية، الجريئة والمتمردة على كل المحرمات كانت تعرف بأن مصر ستكون حنونة عليها وتضمها إلى صدرها لترضعها المجد والشهرة والعز. وهذا بالضبط ما حدث، إذ دخلت دخول الفاتحين وتماهت في المشهد المصري لتتربع مع القلائل على عرش الفن وليالي الأنس.

مصر الملكية توجتها ملكة على قلوب الشعوب العربية قاطبة، ولكن ذلك لم يكن كافيًا لتلك المرأة القوية والجريئة، فكان لا بد لها بأن تستثمر حياتها، التي تبين لاحقًا بأنها قصيرة، في دمغ ذكراها على حوائط التاريخ بتمردها على مسلمات ذلك العصر ومحاولاتها الدؤوبة لاحتلال المشهد والعبث به.

فلسطين في حياة أسمهان كانت لا تزال فلسطين غير المدنسة، وكان ما يزال الغرب جاذبًا وجذابًا وشبه متساوي مع الشرق قبل أن يتسع البون بينهما على نحو شاسع وواسع بطريقة محزنة ومخزية. غنت لفينا وقرطبة وصادقت الإنكليز وتحالفت مع الفرنسيين لظن في نفسها بأنها تستطيع تخطي الفن وعالمه لتدخل عالم السياسة لإحداث تغيير ما، ولكنها لم تعلم بأن ذلك العالم كان محفوفًا بالمخاطر كالإدمان والغرق.

كانت تلك العجالة عن أسمهان المطربة الجدلية الراحلة، ولكننا هنا لنتكلم عن فيلم "اسمهان".

أول ما يطالعنا في الفيلم، وهو فيلم جميل ورومانسي ولكنه يحمل قضايا، أن حركة الكاميرا حالمة ورقيقة، والتقطيع رشيق ومتصل، هو شعور بأنه صنع للتخلص من إدمان ما، سرعان ما نكتشف بأنه إدمان على صوت وحياة مطربة عاشت ورحلت منذ أكثر من ثمانين عامًا. لا تأبه عزة الحسن بتفاصيل حياة أسمهان كثيرًا، لأن همها الأساسي هو معرفة ذلك السر الذي يجعل مطربة، لم تمتلك الا بضع عشرات من الأغاني وأربعة أفلام، حاضرة في حياتنا العصرية على نحو مذهل.

ولكن الإدمان ليس هو وحده ما نراه على الشاشة، لأننا نكتشف بأننا في حضرة رائدة من رواد الشرق، كسرت المحرمات وغنت للكأس المنكر ولم تخف من مداعبة نسيم الجنة الآتي من بلاد الغرب البعيد عن مهد الديانات. أرادت الحسن أن تظهر بأن قوة المرأة تمكنها بأن تكون غير خاضعة لزمن أو لمجتمع يقيدها بالتابوهات الواهية، وتمكنها من ترك أثر وخلق تغيير ما.

"القاهرة لم تعد كما كانت"، تقولها كاميرا الحسن بحس مرهف وحركة حالمة. تجول الكاميرا في شوارع المدينة المولودة من ثورات متعددة ومتلاحقة منذ زمن أسمهان، ثورات أممت ضمن ما أممت استوديو مصر لتسلب من العاصمة سحرها وبصمتها، فنرى المكان الذي صنع مجد الفن العربي ركامًا بعد أن دمرته البيروقراطية الثورية. كاميرا الحسن بكت وهي توثق الأقفال الصدئة وشظايا أصوات عمالقة لطالما عملوا هنا وأنتجوا أعمالًا خالدة.

هنا في هذا المكان المهمل والرث مشت وغنت أسمهان برفقة زملائها ممن أسسوا الفن العربي المعاصر؛ مرتدين أفخر الملابس وأغلى الحلي؛ هنا عزف القصبجي والسنباطي والأطرش وعبدالوهاب، وكأنما كاميرا الحسن كانت تصغي لما بقي من تلك الموسيقى عالقًا على تلك الجدران المدمرة.

يظن المشاهد، للوهلة الأولى، وكأنما الفيلم يوثق حياة أسمهان ليسبر غورها ويكشف أسرارها، وربما يظن أيضًا بأنه يوثق حقبة أو زمنًا لم ينصفه التاريخ، ولكن كل ذلك ليس دقيقًا. إنه فيلم يحمل عدة أوجه ورسائل. في أحد أوجهه الكثيرة يعالج قضية إدماننا في الشرق على تأليه الأشخاص، أكانوا قادة أم فنانين، والتغاضي عن هنّاتهم وسقطاتهم. تقوم عزة الحسن بعملية تطهير ذاتية حين تلقي الضوء على أسمهان الإنسانة من خلال مخاطبتها مباشرة لتطلب منها عتقها ولتقول لها بأنها تعشق أعمالها وإعجازها بالغناء، كما أشار الياس سحاب، ولكنها أيضًا تعشق تمردها على السائد آنذاك وتفردها في مقاومة عصر شديد البأس في تمسّكه بالعادات والتقاليد.

اقرأ/ي أيضًا: أفلام أم كلثوم الستة

النساء في ذلك الزمن كنّ مقموعات يغلفهنّ خمار من العادات البالية والتقاليد، لتظهر أسمهان وتكسر جدران القمع وتبني جيشًا من المقلدات والراغبات في الانعتاق والانطلاق في فضاء الحياة الرحب. هذا ما رأته الحسن ورآه مروان عبادو حين نفى بشدة زعم عبثية سيرة أسمهان، تلك التهمة التي التصقت بها منذ ذلك الزمن وما زالت تتردد حتى الآن. لا، تقول الحسن، لم تكن حياتها عبثية بل كانت طبيعية لامرأة أمسكت بزمام أمرها بيدها وكانت حرة القرارات، أخطأت ببعضها أم أصابت.

"القاهرة لم تعد كما كانت"، تقولها كاميرا الحسن بحس مرهف وحركة حالمة

ترينا الحسن فنانات زمننا هذا متمردات قابعات على الأرض بلا أي تبرّج ولا تجميل يذكر، فقط يمتلكن قوة تجعلهن أجمل الجميلات، يرددن أغاني أسمهان وكأنها صلاة. ثم تنهي فيلمها بأميرة من أميرات آل الأطرش وهي تقود دراجة نارية غير آبهة ببحر السيارات الهائج من حولها والتي يقودها رجال؛ امرأة متعلمة، مثقفة، متمردة، متحررة، مطلّقة ومنطلقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

يا ليل.. يا عين: شرقٌ روتْهُ النساء

25 عامًا على رحليها.. نادرة في سمائها