02-سبتمبر-2021

مخيم موريا للاجئين في اليونان بعد احتراقه (Getty)

بينما يعيش البشر في زمانهم داخل أمكنتهم بالألفة والطمأنينة التي تسمح لأي أحد منهم أن يغفو على عتبة بيته، أو تحت شجرة في حديقته، يعيش اللاجئون في الزمن الممزّق الذي يحيل كل شيء لعنةً. المكان الذي يحبّونه مفقود. السعادة التي يحلمون بها انتهت أمام عيونهم بعدما فرّقهم العنف في خرائط التعاسة، ولشدة ما عايشوا فراقًا، لم يعودوا يصدقون أن التئام الشمل قابل للتحقيق، هذا إن لم نقل إنهم يخافونه لأنه سيضعهم وجهًا لوجه مع الغائبين، في حين أن وضعهم العاديّ كمُفَارِقين يعزيهم بأن الجميع غائب.

الذين فقدوا المكان ولم يكن أماهم سوى الهرب متجردين من كل ما يملكونه، سيظلّ هناك من يتجرأ على حرق خيامهم بمن فيها، وسيعلو صوت من يريد منعهم من التجوال

لأن اللاجئ غريب لا يمتلك شيئًا. ولأن اللاجئ لا يمتلك شيئًا غريب. وإذا كانت الغربة تقلّل من قوة البشر فإن توفر الأملاك يعوّض نفسيًّا بعضًا من الوجه الأول للخسارة. لكن هؤلاء الذين فقدوا المكان في لحظة ولم يكن أمامهم سوى الهرب متجردين من كل ما يملكونه، سيظلّ هناك من يتجرأ على حرق خيامهم بمن فيها، وسيعلو صوت من يريد منعهم من التجوال، وبالطبع سوف يكثر من يهاجمون منازلهم في الأحياء الفقيرة في هوامش المدن التي انتهوا اليها واستطاعوا تدبير تكاليفها، أو يأتي من يقايضهم شربة الماء بالجنس، أو في الكامبات التي يصلون فيها إلى الدرجة صفر للوجود وهم ينتظرون ورقة الإقامة. سيظل ذلك يحدث ما دام اللاجئ موصومًا بأنه أقلّ إنسانية.

اقرأ/ي أيضًا: مسودة غير ناضجة عن المنفى

السؤال عن مكان حدوث انتهاكات بحقهم: لبنان أو تركيا أو اليونان أو ليبيا أو في غرب أوروبا، وعمن حدثت لهم: العرب أم الأفارقة أم الأفغان.. سؤال بلا جدوى. المهم أنها تحدث للأسباب ذاتها، وستحدث للأسباب ذاتها. ولن يتغير الأمر ما لم يكن في هذا العالم من يسمع للاجئين، لكن من ذا الذي يريد أن يسمعهم وهو يعرف أن إصماتهم يجعله، كما الجميع، يشعر بخير مع نفسه. وهكذا لا الناس تشعر ببعضها البعض، ولا السياسيون مضطرون لتغيير أجندتهم. ناهيك عن أن صمت اللاجئين كضحايا يساعدهم على إخفاء عارهم أو شعورهم بالضعف.

لنتخيل أن الدول التي تمنح حق اللجوء تسنّ قانونًا يحتم على كل مواطن أن يسمع لاجئًا كل مدة من الزمن. ربما سيتحطم أول ما سيتحطم ذلك الجدار الوهمي الذي بناه النظام الليبرالي الجديد ليوهم مواطنيه أنهم أفضل لأنهم يستحقون ذلك، بينما الآخرون متخلفون لأنهم كسالى وأقل ذكاء، ولديهم حروب طوال الوقت لأنهم عدوانيون بالفطرة. حين يتحطم ذلك الوهم سيغدو الآخرون مرايا وسيكون على أصحاب الامتيازات أن يروا أنفسهم فيهم، وحينما يضع أحد ما نفسه مكان الآخر سيغدو ما حدث للأول ممكن الحدوث للثاني. بذلك يولد التضامن العميق.

ولعل ما يؤكد ذلك هو إصرار تلك النصيحة الدائمة حول الحفاظ على سلامة الصحة النفسية والعقلية، وهي تقول إنه لا يجب أن نستمع إلى الأخبار. على هذا المنوال يجري إخراس الألم، وبالتجاهل تدوم نِعَم الحياة.

ترسم الأوراق التي تمنّ بها الدول المضيفة حدود الشوق في عواطف اللاجئين، فعندما تقول لهم أن يبقوا حيث هم، أي حيث لا يمكن للقاء بأي أحد أن يحدث

ترسم الأوراق التي تمنّ بها الدول المضيفة حدود الشوق في عواطف اللاجئين، فعندما تقول لهم أن يبقوا حيث هم، أي حيث لا يمكن للقاء بأي أحد أن يحدث، سيحذفون فكرة الانتظار من رؤوسهم، وسيحاولون التأقلم من خلال تدريب النفوس على النسيان، الذي لن يأتي بطبيعة الحال. مأساة من يعيشون في الزمن الممزق أنه لا يملكون سوى الذاكرة.

اقرأ/ي أيضًا: طلبكم مرفوض".. هل انتهى ربيع اللاجئين في أوروبا؟

لا تعطي البلدان المضيفة أكثر من النجاة. ثم تستكثرها. كأنها تزمجر في كل وجه مع كل ورقة إقامة: حصلتم على ما يكفي للحياة فاقبلوها وكفى.

في النهاية، مهما بدت حياة اللاجئ بائسة من الخارج فذلك لا شيء بالمقارنة مع تلك الحياة نفسها من الداخل. وبالتأكيد ليست المشكلة في أن تكون لاجئًا، حتى لو حاصرتك الصور النمطية، فحيث إنك الضحية تُعامل كمجرم، وحيث إنك فردٌ تُعامل كجماعة. مشكلة أن تكون لاجئًا تكمن في أنك ستحيا غير مرئيّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

من اليرموك إلى أوروبا.. اللجوء متواصل

جدار حدودي وإجراءات يونانية مشددة بخصوص الهجرة بعد التطورات في أفغانستان