03-فبراير-2017

سياج مخيم للاجئين في اليونان (Getty)

سابقًا لم يكن لدى أي منّا فكرة على غزو العالم المجاور، أو الآخر فيما وراء البحار بصورة اللاجئ الضعيف التي ظهرنا عليه. حتى أن مشاريع السفر كانت معدومة عند النسبة الأعظم، وإن وجدت فكانت بداعي الاستكشاف عبر الذهاب والإياب، كما لو أنك مشارك في مباراة تصفيات بطولة عالمية.

سابقًا أيضًا، لم يكن متداولًا بهذا الشكل مصطلح الهجرة أو اللاجئ، قدر ما تم تداوله ضمن محيطنا الضيق من حديث عن المنفى، كان يقال عن الشخص الذي رحل إلى إحدى الدول الغربية إما مهاجر أو منفي، وللأخير صنفان الأول طوعي نابع عن قرار شخصي، والثاني اجباري برع في استخدامه قيصر روسيا ضد قادة الثورة البلشفية، ولاحقًا استخدمه هؤلاء ضد معارضيهم في الحكم، واحتكمت إليه الديكتاتوريات العربية منذ سبعينيات القرن العشرين.

كان يقال عن الشخص الذي رحل إلى إحدى الدول الغربية إما مهاجر أو منفي، وللأخير صنفان الأول طوعي نابع عن قرار شخصي، والثاني اجباري

في هذا المكان الضيق من الإقليم الجنوبي، أجد أن صفة المنفى تنطبق أكثر على ثلة لا بأس بها، صحيح أن الحركة كانت أسهل منذ ثلاثة سنوات علينا نحن السوريون، قبل أن تصبح محدودة جدًا في دول الشتات بحكم تصنيفنا كلاجئين ثقيلي الظن، وغير مرحب بنا، لكن ذلك لا يمنع ممن يملكون جوازات سفر صالحة من الطيران حيثما يريدون رغم صعوبة تأمين التأشيرات.

اقرأ/ي أيضًا: عراق "عقوق" الإنسان

أحيانًا كثيرة أخوض صراعًا في التفكير إن كنتُ لاجئًا أو منفيًا، لا أعرف بالضبط ما أنا عليه الآن. أذكر أنني تعرفت منذ زمن بعيد في دمشق على أحد المنفيين، يدعى إسكندر، كان عضوًا في الحزب الشيوعي السوداني، معرفتي به جاءت بسبب امتهانه بيع الكتب المستعملة التي يعرضها على جدار "التكية السليمانية" المجاور لمنطقة "الحلبوني". أحد الأصدقاء أخبرني أن إسكندر منفي من السودان بسبب نشاطه السياسي، ولاحقًا تأكدت المعلومة على لسان بائع الكتب العتيقة.

كان إسكندر بالنسبة لي فرصًة للتعرف أكثر عن معنى أن تكون منفيًا لبلد ثانٍ، هي مثل الفكرة التي تدور الآن بصيغة اللجوء، لكنها متشعبة كون أفعال الاندماج بدأت تطغي عليها. كانت معرفتي بإسكندر مقتصرة على شراء الكتب مع دردشة قصيرة في بعض الأحيان، وكان يمثل نوعًا مختلفًا من المنفيين الذين تعرفت عليهم.

إذ أن إسكندر لم يكن المنفي الوحيد في دمشق، كان يوجد أيضًا اليساريين التونسيين والعراقيين الذي اختاروا نفي أنفسهم إلى دمشق عوضًا عن الدول الغربية، لكن سرعان ما عاد الجميع إلى بلادهم بعد آذار/ مارس 2011، هكذا سمعتُ من بعض الأصدقاء، باستثناء عدد ضئيل منهم لا يزال يختار من دمشق منفى دائمًا له.

أيًا كانت التواصيف المختارة منفى أو لجوء، هي تتشابه في تفاصيلها لكنها تختلف في تعريفاتها، وتتفق في مفصل محددٍ على أنها هروب الفرد من الاضطهاد سياسي، لكن تشعبات الاندماج الجديد، وقوانين الحماية الدولية المؤقتة، أصبغت عليها صفة اللجوء أكثر من النفي الطوعي، وألحقتها بمدركات اللجوء الإنساني، وميّزت نسبة قليلة عنها بمسمى السياسي، رغم أن الجميع اختار الرحيل لأسباب متشابهة عجز العالم عن حلها، ما يجعلني أفسر هذا الفرز من منحى طبقي.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم الثمن.. استغلال رخيص للاجئين السوريين في مصر

في جميع الأحوال، على مر مئات السنين الفائتة لم تختلف المدونات التاريخية في مضمونها التوثيقي عما جرى خلالها من أحداث إلا من ناحية تبدل الأسماء والأماكن، إذ أن جميعها كانت تحمل الكثير من الحروب والأزمات، وهناك أفعال تدميرية لا يزال أثرها حتى اليوم، منها عندما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين ذريتين على مدينتي "هيروشيما" و"ناغازاكي" اليابانيتين، أو مرحلة "الحروب الصليبية"، وما وجد ضمنها من كوارث مبعثرة، دائمًا علينا تذكّر أن التاريخ لا يرحم، حتى ذلك الذي يكتبه المنتصرون.

أيا كانت التواصيف المختارة منفى أو لجوء، هي تتشابه في تفاصيلها لكنها تختلف في تعريفاتها، وتتفق على أنها الهروب من الاضطهاد سياسي

ويوقن عدد كبير من الناس، أغلبهم كُتاب الصحافة، ويساندهم طيف كبير من المتابعين، أن أزمة اللاجئين الحالية ستكون العنوان الأبرز للقرن الحادي والعشرين رغم أنه لا يزال في بداياته. وهنا لا يمكن تجاهل أن هؤلاء الأشخاص الذين قرروا الهجرة لأسباب مختلفة يتم تصويرهم كـ"وحوش" هاربة من محترفات "Marvel" التي تمدنا كل عام بالمزيد من أعمال انتصار الخير على الشر متجاهلة أن العكس يحصل، وهو تصوير حاضر في أجندات سياسية متعددة الأهواء.

أتساءل أحيانًا لماذا لم يطلق علينا وسم المنفيين بدل اللاجئين؟ أو لماذا الطلبات التي تتصدر سفارات الدول الغربية في دول الشتات تُعرف باللجوء لا طلب النفي؟ أليس خيار السفر إلى كندا أو السويد كمثال يعتبر نفيًا طوعيًا؟ ما الذي يميز هذين الفعلين بما أنهما ناتجين عن فعل واحد هو مخالفة الرأي السياسي في المقام الأول؟ صحيح أن اللجوء هو الفعل الرائج منذ العام الأول من العقد الثاني لقرننا الحالي لكنني أجد فعل المنفى أضيق، وأصدق في آن واحد.

معظمنا كانت له محطات مختلفة قبل أن يختار النفي الأعظم اتجاه الغرب، إلا أنها لا تزال تُعرف باللجوء. كما أنه من الصعب أن تكتب عن الفكرتين ضمن سياقات موحدة نظرًا أن فئة كبيرة من الناس لا يهمها أي من الفعلين قدر ما يهمها الحصول على مكان آمن للعيش، ومن الممكن أن تكون الفكرة المُثارة غير ناضجة في الأساس، لكنها تعتبر فرصة للحديث عن تفصيل صغير قد يشاركني أحدهم في رؤيته على أنه لا يتعدى كونه منفى بحجم فتحة غطاء قلم الـ ـBic العليا لا أكثر.

اقرأ/ي أيضًا:
"حريق في البحر".. جزيرة لأحلام معطلة
أوروبا القلقة على اتحادها من اللاجئين