03-يوليو-2023
مقر حركة النهضة الرئيسي

خلافات داخل الحركة في تقدير موقفها الحالي بعد زهاء سنتين من إبعادها عن الحكم قسرًا (صورة ياسين القايدي/الأناضول)

 

فاجأت حركة النهضة عديد المتابعين للشأن التونسي مؤخرًا بتواتر تصريحات لرئيسها بالنيابة منذر الونيسي وبيانات رسمية، كان أبرزها بيان 6 جوان/يونيو الماضي في ذكرى تأسيسها، والذي قالت فيه إنها تهدف "لحوار وطني ينقذ البلاد من الانهيار ويحفظ وحدتها وسلمها الأهلي". في ذات البيان "الشهير" ذُكر أيضًا "لقد استوعبت الحركة الدرس.. ولديها كل الاستعداد للعمل مع الأطراف الوطنية من أجل مستقبل أفضل لبلادنا".

فاجأت حركة النهضة الكثيرين مؤخرًا بتواتر تصريحات لرئيسها بالنيابة وبيانات رسمية دعت من خلالها لحوار وطني مؤكدة استعدادها للعمل مع الجميع مما طرح تساؤلات عدة حول الخلفيات 

بدا محتوى البيان للكثيرين، منذ الوهلة الأولى، لافتًا ومختلفًا رغم تضمينه الإقرار بأن ما حصل في تونس ذات 25 جويلية/ يوليو 2021، هو "انقلاب"، لكن لهجة البيان والمنحى الذي اتخذه كان يُوحي برغبة لفتح قنوات مع الرئيس قيس سعيّد وسلطته. لم يستثن البيان المذكور سعيّد من الحوار المطلوب كما لم يستثن أي طرف في الحياة السياسية التونسية رغم تعدد الأطراف التي تعادي النهضة وتطالب حتى بحلّها. 

تتالت لاحقًا تدوينات لرئيس النهضة بالنيابة يؤكد فيها ذات التوجه نحو الحوار بل ويبرره ومن ذلك قوله "الدعوة إلى الحوار ليست ضعفاً ولا عجزًا ولا تذيّلاً لأحد مهما كان ومهما علا شأنه". ويضيف "الدعوة لحوار يضم كل التونسيين بكل مشاربهم هو صوت الحكمة والتواضع للوطن، هي وعي بخطورة الوضع الراهن داخل بلادنا وهي موجهة لكل الطيف السياسي دون استثناء حتى المكابرين منهم".

لم تستثن حركة النهضة سعيّد من الحوار المطلوب كما لم تستثن أي طرف في الحياة السياسية التونسية رغم تعدد الأطراف التي تعاديها وتطالب حتى بحلّها

هذه الدعوة من أعلى منصب في الحركة حاليًا، في غياب رئيسها راشد الغنوشي الموقوف منذ أفريل/نيسان الماضي، أثارت تساؤلات بخصوص خلفياتها والهدف منها وخاصة عن مدى تجمع النهضاويين حولها، في وقت يتعدد فيه عدد الموقوفين من الحركة في السجون بتهم مختلفة، يؤكد المحامون زيفها وفراغها من الأدلة والمؤيدات، وفقهم، وكونها لا تعدو أن تكون محاكمات سياسية. 

لم تتأخر الردود من داخل الحركة نفسها، ربما من أبرزها ما يدوّنه القيادي بالحركة المستقر خارج تونس وصهر راشد الغنوشي، رفيق عبد السلام، والذي دوّن الكثير تلميحًا وتصريحًا برفضه من يسميهم "من خرجوا عن ثوابت رفض الانقلاب حتى من داخل حركة النهضة". 

أثارت دعوة النهضة لحوار وطني دون إقصاء، تساؤلات بخصوص خلفياتها والهدف منها وخاصة عن مدى تجمع النهضاويين حولها، في وقت يتعدد فيه عدد الموقوفين من الحركة

وقد تلت تلك المواقف "حرب تدوينات"، لكنها لم تتجاوز إطار إبداء الرأي والرأي المعارض على منصات التواصل وفي الإعلام، بحكم خبرة الرجلين وعديد القيادات النهضاوية الأخرى في احتواء الخلافات الداخلية، إذ لم تكن يومًا الحركة بتعدد مكوناتها على موقف واحد من التطورات التي تعرفها تونس، لا اليوم ولا في الماضي القريب عندما كانت في الحكم أو حتى قبل ذلك في سنوات السجون والمنافي. 

لكن ما ظهر من خلف الأكمة لم يكن قليلاً وأكد للعموم حجم الخلافات داخل الحركة في تقدير موقفها الحالي بعد زهاء سنتين من إبعادها عن الحكم قسرًا، وهي التي تعرف إغلاقًا لمقراتها في كامل البلاد وإيقاف العديد من قياداتها وغيابهم الواضح عن المشهد الإعلامي. 

ما ظهر من خلف الأكمة لم يكن قليلاً وأكد للعموم حجم الخلافات داخل الحركة في تقدير موقفها الحالي بعد زهاء سنتين من إبعادها عن الحكم قسرًا

في الأثناء، يعود للأذهان خلاف وجدل مشابه عرفته حركة النهضة لعقود إبان محاكمات بداية التسعينيات من القرن الماضي في تونس والتي أنتجت ما وُصف بـ"المجزرة" في صفوف أبنائها من قبل سلطات زين العابدين بن علي حينها، وخلفت لومًا شديدًا تجاه قيادة الحركة حينها، بالنظر لتوجهات لم تُراع فيها، وفق عديد النهضاويين، حجم الخطر وفرضيات الربح والخسارة، و"ضحت" كنتيجة لهذه التقديرات بالمئات بين سجون وتعذيب وتشويه ومراقبة وإذلال فيما غادر تونس عدد لا بأس به من القيادات وعلى رأسهم زعيم النهضة حينها والآن راشد الغنوشي. 

قصة حكم النهضة خلال العشرية التي تلت الثورة، خير دليل على أن النهضاويين لم ينسوا يومًا ما حصل معهم في ما يُطلقون عليه "سنوات الجمر" أو "المجزرة" في التسعينيات، وأن ذلك ساهم في فلسفة الحكم التي انتهجوها والتي طٌبعت بوصم "التوافق"، وغالبًا يساهم اليوم في تكوين نظرتهم للخلاص الشخصي ـ للحزب ومكوناته ـ وللبلد بشكل عام في مرحلة ما بعد 25 جويلية/يوليو 2021.  من الواضح أن جزءًا واسعًا من أبناء النهضة لا يريدون إعادة تجربة التسعينيات من القرن الماضي ويسعون لتخفيف الأضرار بالقدر الممكن.

قصة حكم النهضة إثر الثورة خير دليل على أن النهضاويين لم ينسوا يومًا ما حصل معهم في ما يُطلقون عليه "سنوات الجمر" وأن ذلك ساهم في فلسفة الحكم التي انتهجوها "التوافق" ويساهم اليوم في تكوين نظرتهم للخلاص الشخصي والعام 

لاحقًا، اكتفى رئيس الحركة بالنيابة منذر الونيسي بالتدوين أنه من يُمثل الموقف الرسمي للحزب رفقة الناطق الرسمي عماد الخميري لا غير. فيما رد رفيق عبد السلام أن "مواقفه تلزمه وتشرفه وأنها تعبر عما يقوله كل الجمهور الرافض للانقلاب الذي لا يتردد في تسمية الأشياء بأسمائها دون وجل أو تهيّب"، وفق تعبيره. 

طبعًا الخلاف ليس مقتصرًا على الونيسي وعبد السلام، فكلاهما يمثل توجهًا داخل الحزب ويصعب في الوقت الراهن تحديد أي المواقف محل إجماع أكبر. ما يُعرف عن النهضة وعدد كبير من الأحزاب الإيديولوجية أنها تنغلق على مشاكلها الداخلية عند وجود "خطر خارجي" ولذلك كان منتظرًا أن لا يخرج للعلن الكثير في هذه المرحلة. 

ما يعرف عن النهضة وعدد كبير من الأحزاب الإيديولوجية أنها تنغلق على مشاكلها الداخلية عند وجود "خطر خارجي" ولذلك كان منتظرًا أن لا يخرج للعلن الكثير في هذه المرحلة

من جانب آخر، تصطدم دعوة النهضة إلى حوار وطني ومصالحة شاملة دون إقصاء، أيضًا بموقف العديد من مكونات جبهة الخلاص الوطني، (ائتلاف معارض يرأسه أحمد نجيب الشابي وتعد النهضة من أبرز مكوناته إضافة إلى أحزاب وشخصيات بارزة)، والتي لا يبدو أنها تشارك النهضة هذا التوجه أو تُروج له في خطاباتها أو بياناتها على الأقل. 

بغض النظر عن دعوات الحوار المتكررة من اتحاد الشغل أو حركة النهضة أو في أوقات سابقة من مكونات أخرى للمعارضة أو مقربة من السلطة، لا يهتم قيس سعيّد بأي من هذه الدعوات، وهو يقود حملة ضد معارضته على اختلاف مكوناتها تحت مسمى "المحاسبة" ولا يتضح في المشهد العام ما يدفعه للتراجع خطوة نحو أي حوار مهما كان الطرف المقابل. 

من الواضح أن جزءًا واسعًا من أبناء النهضة لا يريدون إعادة تجربة التسعينيات من القرن الماضي ويسعون لتخفيف الأضرار بالقدر الممكن

ولا يغيب ذلك عن قيادات النهضة ودعواتها لا تتجاوز غالبًا الرغبة في "تسجيل موقف" قد يفيدها حسابيًا مستقبلاً والتخفيف من وطأة هجوم السلطة ضدها، في ظل حالة من الركود وغياب التصورات والحلول في المشهد السياسي التونسي وترقب لمتغيرات داخلية أو خارجية قد تُعدل من موازين القوى.