09-مايو-2024
حدائق بابل المعلقة

(freepik) الحدائق بنيت في عهد الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني

درج على الألسنة القول بأن من الحب تولد الأساطير، وقد تراكم في الإرث المعرفي الإنساني قناعة بأن الحب يصنع المعجزات، وتكرست هذه المعاني في الأشعار والأغاني الفلكلورية وانغرست عميقًا في الوجدان البشري وصارت مطمحًا يُنظر إليه على أنه النموذج الأسمى للحب، فإذا كان الحب لا يصنع المعجزة فما حاجتنا إليه؟ ولعل معجزة الحب الكبرى تتمثل في جعل المرء يستكشف أجمل المكنون فيه، ويستشعر عواطف لم يسبق له أن اختبرها، حتى أنه بفضل الحب سينظر إلى العالم بمنظور جديد، طازج، غير مألوف، فتصبح أصغر المباهج مدعاة للاحتفال، وتصبح أبسط المآسي سببًا للحزن.. وبهذا تصبح الروح خفيفة شفيفة، تأخذ وتعطي هذه الحياة كل جميل.

ولكننا هنا سنتحدث عن الحب بوصفه دافعًا لتحقّق المعجزات، ولا نقصد معجزة الخوارق وإنما معجزة الإتيان بالأعاجيب، وأعجوبتنا التي سنتحدث عنها قد بلغ صيتها الآفاق منذ قرون عديدة، وسيظل ذكرها خالدًا، فقد عُدت واحدة من عجائب الدنيا السبع القديمة، ورغم كونها تتأرجح بين الحقيقة والأسطورة، إلا أن المكانة التي حظيت بها نقشت في الوجدان الإنساني بحيث لا يمكن التغاضي عنها.

المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت الذي عاش في القرن الـ5 ق.م لم يرد في أي من كتاباته ما يتعلق بالحدائق في بابل تحديدًا

حدائق بابل المعلقة

مما يثير الشك في وجود الحدائق المعلقة أساسًا، هو أن ذكرها في كتب التاريخ ورد من مرويات تعود إلى عصور تلت تهدّمها، والحاصل أن الحدائق بنيت في عهد الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني أحد أعظم ملوك بابل، وقد كانت مدة حكمه في القرن الـ6 ق.م. والآثار الوارد فيها ذكر الحدائق يعود أقدمها إلى القرن الـ 3 ق.م. وكلها وصلت إلينا عن طريق مؤرخين هيلينيين (إغريق) بالإضافة إلى أن المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت الذي عاش في القرن الـ5 ق.م لم يرد في أي من كتاباته ما يتعلق بالحدائق في بابل تحديدًا. ويمكن توزيع المؤرخين اليونانيين والرومان الذين ورد ذكر الحدائق في آثارهم إلى:

  •  المؤرخ اليهودي جوزيفوس: ينقل جوزيفوس وهو مؤرخ روماني عن الكاهن البابلي الأعظم لمعبد الإله مردوخ المسمى بـ بيروسوس، وصفه للحدائق المعلقة في الفترة الأولى من القرن الـ3 ق.م، وتعد الأخبار المنسوبة للكاهن أقد أثر على ورود ذكر الحدائق، كما أن ذكر زوجة نبوخذ نصر التي من أجلها بنيت الحدائق لم يرد ذكرها إلا مرة واحدة من قِبله.
  • المؤرخ اليوناني سترابو: يصف سترابو وجود حدائق بابل على نهر الفرات، وشرح في كتاباته التي يعود تاريخها إلى 64 ق.م عن نظام الري فيها  
  • الجغرافي كوينتوس روفوس: وهو مؤرخ روماني اشتهر بكتابته لتاريخ الإسكندر المقدوني
  •  المؤرخ اليوناني ديودوروس سيكلوس: كتب في القرن الأول قبل الميلاد، تاريخًا عالميًا، وقد حسب المؤرخين فإن روايته عن الحدائق المعلقة من المحتمل أنها استندت إلى ما كتبه المؤرخ كليتارخوس، أحد مؤرخي الإسكندر أيضًا.

وهكذا يتضح أنه لا وجود لأي آثار كتابية بابلية تحكي شيئًا عن الحدائق أو تذكر الملكة حتى. وكل ما هو موجود من ذكر لها لا يربو عن كونه مرويات لمؤرخين أو جغرافيين يرجّح عدم زيارتهم لبابل أساسًا، كما أن الأوصاف المذكورة في الكتابات الرومانية والإغريقية توحي بشيء من السمات المعمارية الهلنستية (الإغريقية) رغم أن الحضارة البابلية لها طراز معماري خاص بها غني عن التأثر بالحضارات المجاورة ناهيك عن التأثر بحضارات لاحقة!! فالمؤرخون في معظمهم جاؤوا بعد فترة حكم الإسكندر المقدوني الذي غزا بابل واحتلها في القرن الثالث ق.م.

ملك بابل قد رقّ قلبه لحزن أميتيس على فراق وطنها في فارس، فأمر لإسعادها ببناء الحدائق الغنّاء كثيفة الزرع والنباتات 

قصة حدائق بابل المعلقة

جاء في المرويات أن الحاكم البابلي الأعظم نبوخذ نصّر الثاني (من حكام بابل في الفترة الحديثة حكم من 605 إلى 562 قبل الميلاد) قد تزوج بترتيب سياسي من ابنة ملك الميديين -أو حفيدته- أميتيس الميدية. وهذا الزواج السياسي الذي دبره والد الملك كان الغرض منه توثيق الصلات بين المملكتين كعادة الزيجات من هذا النوع. ولكن الرباط الذي جمع الزوجين نما واتسع ونفذ الحب إلى قلبيهما، بل حتى نسجت الأساطير التي خلدت هذا الحب، فسواء كانت الحدائق حقيقة أو أسطورة فإن قصة بنائها ظلت وعاشت وصارت مضرب المثل.

هذا الملك العظيم الجبار الذي حكم بابل ووسع رقعتها وأعاد للمملكة هيبتها، باني بوابة عشتار، قد رقّ قلبه لحزن أميتيس على فراق وطنها في فارس، حيث الخضرة والغابات والزرع والجنان، فأمر لإسعادها ببناء الحدائق الغنّاء كثيفة الزرع والنباتات في بلاد الرافدين على ضفاف نهر الفرات الذي يعبر من بابل، لعل البسمة ترتسم على شفتي الملكة الحزينة مجددًا.

بنيت حدائق بابل المعلقة على هيئة مدرجات ضخمة فيها نباتات كثيرة وأزهار متنوعة

بناء حدائق بابل المعلقة

نشأت فكرة بناء الحدائق بهدف التمتع بجمالها كهدف صرف -دون وجود غاية زراعية إنتاجية- في منطقة الهلال الخصيب، ومنها انتشرت إلى باقي الدول المحاورة والمحيطة بحوض البحر الأبيض المتوسط، وتطور الأمر وانتشر حتى صار كل الموسرين حريصين على بناء حدائق تحيط ببيوتهم وقصورهم، بل حتى تضمنت الحدائق لاحقًا سمات جمالية معمارية تضفي الجمال والبهاء على الحدائق.

وفيما يخص حدائق بابل المعلقة، فقد ورد في الوصف المأخوذ من بيروسوس كاهن مردوخ، أن الحدائق تشبه الجبال، وأنها على هيئة مدرجات ضخمة فيها نباتات كثيرة وأزهار متنوعة، أما ديودوروس سيكلوس فيشير إلى أن مصاطب الحدائق كانت تنحدر للأعلى مثل المسرح القديم ووصلت إلى ارتفاع 20 مترًا. ويتفق المؤرخون المذورن على أن نظام الري كان مصممًا بطريقة إبداعية جعلت من السهل توفير المياه للسقي ورفعها عبر شبكة قنوات وصهاريج وممرات من نهر الفرات إلى حيث الحدائق.

 

حدائق بابل أو حدائق نينوى؟

يقال إن وجود هذه الحدائق ليس ضربًا من ضروب الخيال، ولكنها أنشئت في غير بابل التي حكمها نبوخذ نصر الثاني. ففي بحث قامت عليه دكتورة في المعهد الشرقي لجامعة أوكسفورد في إنجلترا، وجدت الباحثة ستيفاني دالي آثارًا تشير إلى أن عدم العثور على أي أثر لحدائق بابل هو أنها ما بنيت فيها أساسًا، بل تقدم الباحثة دلائل إلى أن الحدائق بنيت في نينوى في حكم الملك سنحاريب ملك الأمبراطورية الآشورية قبل قرن من الزمان على حكم نبوخذ نصر، ونينوى مدينة قريبة من البصرة الحالية. وقامت الأدلة المذكورة على وجود آثار في النصوص القديمة للملك سنحاريب فيها ذكر لقصر عظيم يحتوى على لولب لرفع المياه.

وهناك آثار كشفت عنها الحفريات حول نينوى (الموصل) تُظهر نظام قنوات ري لنقل المياه من الجبال فيه نقش يذكر صراحة اسم الملك سنحاريب، كما أن المجرى المائي والقنوات الممتدة تتجه نحو نينوى. مع توضيح أن اللبس الحاصل في نسب الحدائق لبابل نبوخذ نصّر إنما منشؤه أن نينوى كانت تسمى قبل سنحاريب (ببابل الجديدة). حتى أعاد هو تسمية بوابات المدينة على اسم مداخل بابل.

 

ومهما يكن من الأمر، فوجود حدائق نينوى لا ينفي إمكانية وجود حدائق بابل، ولا يعني أنها بالضرورة هي فعلًا، وبذلك يبقى لغز هذه الحدائق قائمًا حتى اللحظة، فقد ظل علماء الآثار يبحثون عن بقايا الحدائق أو أي أثر لها دون جدوى. حتى أن مجموعة من علماء الآثار الألمان أمضوا عقدين من الزمن في مطلع القرن الـ20 وهم يحاولون اكتشاف علامات الأعجوبة القديمة دون أن يجدوا شيئًا. ولكن حتى لو غاب الأثر عن الواقع، فإن هذه الأسطورة وقصة الحب التي ألهمتها من أجمل القصص التي يمكن أن تُروى على مر الأجيال.