03-نوفمبر-2021

الراحل محمد طمليه (تصوير: أسامة الرفاعي)

الرسالة التي أرسلها في عيد ميلاده إلى بعض  المسجلين في ذاكرة هاتفه وهو الذي كان يخوضُ حربّا لا يقدر عليها، تلك الرسالة النصّية، التي وصلت العديد ممن كنت أعرفهم وأحسدهم على رنّة هواتفهم مظهرة اسمه عليها، رسالة لم تكن سوى سبعة عشرَ حرفًا، لكنها لا زالت تسبب لي رعشة غريبة، أنا الذي لم أكن محظوظًا بما يكفي آنذاك لتصلني، لكن تفاصيلها، وبرغم مرور الكثير من الوقت والأيام، لم تغب عن الطريق الذي يخضُّ كلَّ شيٍ فيي حين اتذكرها.

حين التقيته عام 2007 في حفلٍ لتوقيع كتابه "إليها بطبيعة الحال" وسألني عن اسمي،  كتب لي: أيمن، فأنا الأيسر.

محمد طمّليه كان الذي نرغب أن نكونه ونعيشه، كان الذي نحسد ذكاءه، نتمنى قليله، وتضربنا صاعقةٌ من فرحٍ حين يكون حاضرًا في أيِّ أمسيةٍ توافقت المصادفات أن نحضرها.

محمد كان يمثل معضلة ما؛ معضلة تتلخص في أن الجميع يحبّه ويقدّره لكنهم يخشون كلماته وتعليقاته التي تنخرُّ العظم.

محمد طُمّليه كان بسيطًا وحادًّا، كشفرة حلاقة.

*

"كل عام وأنا بخير"

هذا ما أرسله لمن يعرف، أو ربما لمن يعتقد أنهم قد يهتمون لذكرى ميلاده، في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، في ذلك العام شعرتُ بأنني غير كثيرين، فأنا وهو من برجِ العقرب، وأن تشرين الثاني صارَ الشهر الذي نتشاركُ به.

وأنا بخير، رددت بعده، ولا زلت أردد حتى اليوم.

راح طُمَّليه قبل ثلاثةَ عشرَ عامًا، لكنّي لا زلتُ أحفظُ مكونات الكعكة التي ملأها فلافل وطحينية وملعقة واحدة من البندورة المفرومة وفركَّتيّ ملح، الكعكة – من صلاح الدين على الأغلب - التي تناولها في محترف رمال في عمّان قبل وفاته بأشهر.

*

طُمّليه الذي كتب عن تفاصيل وادي الحدّادة والفانيلات البيضاء والشطحات التي يخطط لها الأب العادي الذي يكاد ينهار من الديون المتراكمة، والذي كتب عن أم العبد، والطريقة التي تطبخ فيها الفاصولياء وطعمُ الباذنجان، الذي وصف مرارة العلاج الكيماوي بدقّة متذوق خبير، وعن السرطان الذي قرر أن يسكن أكثر الأماكن التي يحبها فيه ويخشاها الجميع، حنجرته، طُمَّليه كان كثيرًا علينا ولو أنه وحده، وكان وحيدًا ولو كان الجميع حوله.

*

Text Message

Sender: طمليه

Content: كل عام وأنا بخير.

وهكذا احتفل بذكرى ميلاده قبل أن يقرر أن يسلك الطريق الأخير.

*

هطل مطرٌّ كثير على وادي الحدّادة، وكل الفتيان الذين ذكرتهم كبروا، منهم الذي يقضي محكومته في الجويدة، ومنهم من سافر إلى الخليج الذي كنت تمقته، وبعضهم استلم شارة الفتوة من الذين تقاعدوا، كلهم بخير يا محمّد، إلاّ أولئك الذين صاروا مخبريين سريين، فمثلًا، يقضون الليلة يدخنون الحشيش مع ولاد حارتهم وفي آخر السهرة تزورهم مكافحة المخدرات.

صار الكثير بعد غيابك،

لا بد أنك قابلت صديقك، ناهض، لكني لستُ متأكدًا إن قال لك كيف وصل هناك.

وإن كنت لا تعرف، فقد أُغتيل في المكان الذي من المفترض أن يكون أكثر عدلًا،

أيوة، بالضبط، على درج قصر العدل.

أعتذر عن هذه الحقيقة، فلربما هذا سيخفف شعورك بالعجز أنك لستَ هُنا لتحاول اصلاح ما أمكن، اطمئن، لا يوجد ممكن.

الممكن الذي نعتقده صار يقع تحت بند "غير المرغوب فيه" يا صديقي.

*

سأراكَ قريبًا ومعي كتابك الذي يحمل توقيعك، وأريدك أن تقرأ لي نصّك الذي تُحب، عن وادي الحدّادة بالطبع، وعن خوفك من الكسل، وسأحدثك عن كل الخيبات التي عشناها بعد نشوتنا القصيرة بتغيير قد يحدث، أمَلًا مؤقتًا أصابنا صارت ذكراه مرُّة.

إن قرأت هذا النص فأرجو أن تُرسل لي قائمة بما تحتاجهُ هناك لأحضره لك، كما أنّي أرجوك أن تُبقي لي مكانًا قربك حين أصل، ففمي مليءٌ بالكثير الذي لا يُكتب، وإن كُتب فلن يمرره المحرر وإن مرره، فرئيس التحرير هناك يترقب كحارس مرمى فريق يلعب في الدرجة الأولى بعد أن ينهي وظيفته الأساسية في الدائرة.

*

يَبُس الكعك، والفلافل صار بلا طعم حتى في الأماكن التي راهنت أنها لن تتغير.

مقاهيك المفضلة صارت "نُص كُم"، وحتى أسماؤها لم تعد عربية، والقهوة صارت معقدة للدرجة التي من الممكن أن تعجق سماوات الموظف حين تطلب منه قهوة عالريحة، فلم تعد الرائحة مهمّة بعد كل المصطلحات التي تسبق كلمة قهوة.

راحت اللويبدة التي تعرفها أيضًا، ولهذا حديثٌ آخر.

*

كل عام وأنا بخير، وأنت بخير.

*

معي صحنين كنافة ناعمة من حبيبة البلد خص نص إلك إنت وناهض.

*

نيّال اللي راحوا وماشافوا،

نيّال اللي ضلّوا وشافوا،

واللي واقفين بالنص بينهم،

إلهم إيمانهم،

 نيالهم،

ويمكن إلهم الله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصدأ الذي أكلنا

هرولة نحو موقف الباص الأخير