كشفت مجلة فورين بوليسي عن تفاصيل خاصة بعمل منظمة الصحة العالمية في سوريا، وغيرها من المنظمات التابعة للأمم المتحدة؛ تجعل منها متهمة بالتواطؤ مع نظام الأسد في حربه ضد المدنيين، خاصة المحاصرين من قبل قوات النظام السوري. في السطور التالية ترجمة بتصرف لتقرير فورين بوليسي.
في الماضي، شكلت منطقة الغوطة الشرقية ذات الطبيعة الخصبة والتي تبعد 10 أميال شمال شرق العاصمة السورية، سلّة طعام العاصمة دمشق. وقد عُرفت تلك البلدة بسكانها المنفتحين، وتنوعها الديني والعرقي، وسياسييها المائلين إلى الديمقراطية، ورجال أعمالها الأثرياء المستقلين، ما حدا برئيس النظام السوري بشار الأسد ونظامه لبغضها والعزوف عنها.
انفتاح سكانها، وميل سياسييها للديمقراطية، جعل من الغوطة الشرقية منطقة بغيضة بالنسبة لبشار الأسد ونظامه
وفي شهر آب/أغسطس من عام 2013، كانت الغوطة الشرقية هدفًا لهجوم بغاز السارين نفذه النظام السوري، وأسفر عن مقتل 1466 شخصًا في ليلة واحدة، كان معظمهم من النساء والأطفال.
اقرأ/ي أيضًا: حصار مطبق على الغوطة الشرقية.. وأطفالها يموتون جوعًا
وفي أعقاب مذبحة السارين، التي قُوبلت بالوعيد والتهديد الصارم من قبل القوات الدولية، صدّق نظام الأسد على اتفاقية الأسلحة الكيميائية، ووافق على تسليم مخزونه من الأسلحة الكيميائية إلى روسيا. وتوقفت الغارات الجوية لبضعة أسابيع. ثم بدأ جيش النظام في شهر تشرين الأول/أكتوبر في فرض حصار صارم على الغوطة الشرقية.
مثّل الحصار جزءًا أساسيًا من رد الأسد على الانتفاضة الشعبية التي اندلعت منذ الحصار الأول لمدينة درعا في شهر آذار/مارس لعام 2011. وبحلول خريف عام 2016، كانت قوات الأسد تحاصر أكثر من 1.2 مليون مدني في المناطق المدنية الكبيرة مثل شرق حلب، وبعض البلدات المدنية الصغيرة مثل داريا، ومخيمات اللاجئين الفلسطینیین مثل مخيم اليرموك.
كما حاصرت الجماعات المسلحة الأخرى المدنيين، فحاصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) 80 ألف شخص في دير الزور، وحاصرت قوات من المعارضة 20 ألف مدني من الشيعة بالقرب من إدلب. مع ذلك لا تقترب تلك الأرقام من حجم أرقام المحاصرين من قبل النظام السوري، والذين يقدرون اليوم بحوالي 700 ألف، يعيش أكثر من نصفهم (390 ألف تحديدًا) في الغوطة الشرقية.
وفي القانون الدولي يعتبر حصار المقاتلين لحثهم على الاستسلام أمرًا مشروعًا، لكن نظام الأسد يستخدم حصاره لاستهداف المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، كشكل من أشكال العقاب الجماعي والسيطرة، وهو ما يُعد جريمة حرب، إذ يكفل القانون الإنساني الدولي حرية تنقل المدنيين وإمكانية وصول المساعدات الإنسانية إليهم، وقد خرق نظام الأسد ذلك ولا يزال مستمرًا في خرقه.
ولا يقتصر استهداف استراتيجية النظام السوري على المدنيين القابعين بين القوات المقاتلة، بل إنها تطال أيضًا المدنيين العُزّل في البلدات التي يطغى عليها الطابع المدني. وجديرٌ بالذكر أن المعاناة الناجمة عن الحصار بطيئة وغير مرئية تقريبًا.
وتقع المسؤولية عن هذه الحالة القاتمة أساسًا على عاتق النظام السوري، ولكن لم تكترث الوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة كثيرًا بذلك، والتي تواجه مهمة لا تحسد عليها من خلال التفاوض مع نظام لا يعبأ بقتل المدنيين. ويتجلى ذلك بوضوح عند الأخذ في الاعتبار الموقف الذي اتخذه كبار المسؤولين التابعين للأمم المتحدة، بأن أي شيء جيد يقومون به قد يُبرر الغطاء الذي يقدمونه للحصار وغيره من الهجمات.
إلا أن الواقع يبين غير ذلك، إذ تواجه بلدة داريا السنية الفقيرة، التي تبعد بضعة أميال جنوب دمشق، حصارًا منذ شهر تشرين الثاني/نوفمبر لعام 2012، وبرر النظام السوري الحصار من خلال تصوير البلدة كقاعدة عسكرية، كما لم يسمح لأي مساعدات إنسانية أو طبية بالوصول إليها. وعندما زارها مسؤولو الأمم المتحدة أخيرًا في شهر أيار/مايو من عام 2016، صُدموا، حيث وجدوا أن البلدة لا تضم سوى حوالي ثمانية آلاف و300 فرد، جميعهم من النساء والأطفال والمدنيين المسنين.
وفي مثال أخرى، أبرم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، المعروف اختصارًا بـ"OCHA"، في عام 2015، اتفاقًا مع النظام السوري. وعلى الورق، ضمن الاتفاق آلية لإجلاء المرضى من أربع بلدات هي: الزبداني ومضايا، المحاصرتين من قبل القوات الموالية للنظام، والفوعا وكفريا، اللتين تحاصرهما بعض الجماعات المسلحة.
ولكن على أرض الواقع، كان المرضى في المناطق المحاصرة من قبل النظام قد لقوا حتفهم بالفعل. وبغض النظر عما إذا كان المريض المصاب بأمراض خطيرة في مضايا تلميذًا مصابًا بالتهاب السحايا أو أُم تعاني من حالة حمل معقدة، أو امرأة كبيرة في السن مصابة بسرطان الثدي؛ كان الإجلاء يتطلب الانتظار حتى يصبح الشخص مريضًا بدرجةٍ كافية تستدعي الإجلاء من المناطق المحاصرة.
وفي العام نفسه، وبإصرار من النظام السوري، أزال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية كل إشارة إلى "حصار" أو "محاصر" من خطته للاستجابة الإنسانية لعام 2016 (Humanitarian Response Plan)، وثمة اعتراف ضمني من قبل سلطات الأسد بأن استخدام كلمة الحصار يشكل جريمة حرب، ما يعتبر أن إزالة مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية لعبارات حصار ومحاصر، يعتبر تغطية على هذه الجريمة.
وعلى الرغم من أن أقل من 5% من سكان الغوطة الشرقية يمكن اعتبارهم مقاتلين، فإن الحكومة السورية تحظر الإذن بالإمدادات الجراحية في القوافل على أسس خادعة، تتمثل في أن المرضى المصابين بإصابات حرب لا بد وأنهم إرهابيين! لكن الغارات الجوية اليومية التي شنها النظام السوري أو القوات الروسية، على المنازل والمدارس والأسواق والمساجد وسيارات الإسعاف والمستشفيات؛ تعني أن جميع المرضى تقريبًا الذين يعانون من إصابات نتيجة التفجيرات وبتر أطرافهم- هم من المدنيين.
ويُعتبر النساء والأطفال السكان الأكثر ضعفًا وتضررًا، سواء من الهجمات أو من استبعاد وحظر المواد الجراحية، التي تشمل حظر التبرع بالدم ومعدات نقل الدم والسوائل والمحاليل التي تُعطى في الوريد، والتي تُعد ضرورية سواء في العمليات القيصرية أو إنعاش الأطفال.
ومنذ عام 2013، أنفقت منظمة الصحة العالمية الملايين من الدولارات نيابة عن وزارة دفاع النظام السوري، لشراء أكياس الدم ومعدات نقل الدم وأدوات الفحص والمطابقة المستخدمة في فحص مجموعات الأمراض المنقولة بالدم مثل التهاب الكبد "بي" والتهاب الكبد الوبائي "سي" وفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز).
تواصل "الصحة العالمية" تقديم الدعم الطبي لوزارة دفاع الأسد، رغم عدم السماح لهذه الإمدادات بالوصول للمناطق التي يحاصرها النظام
وتواصل منظمة الصحة العالمية تقديم الدعم للوزارة رغم عدم السماح لأي من هذه الإمدادات الطبية بالوصول إلى الغوطة. وفي الوقت نفسه، تسببت القنابل التي أُسقطت على الغوطة في إراقة المزيد من الدماء، ما عرّض الأفراد الطبيين والمرضى بالتهاب الكبد "بي" أو التهاب الكبد الوبائي "سي" أو الإيدز، وغيرها من الأمراض المنقولة عن طريق الدم. وفي خطوة غريبة أو بالأحرى موغلة بالشر، أزال النظام السوري كافة أدوات الفحص وكذا التطعيمات ضد التهاب الكبد "بي" من القوافل المتجهة للمناطق التي يحاصرها!
اقرأ/ي أيضًا: كيف حصل حلفاء الأسد على 18 مليون دولار من الأمم المتحدة؟
وتتبادل الهيئات التابعة للنظام عملية التعنت أو تخفيض المساعدات، فمثلًا إذا ما وافقت وزارة الخارجية على مرور قافلة إلى منطقة يحاصرها النظام، فإن وزارة الصحة تُخفض قائمة المساعدات التي قد تصل إلى مئات الأدوية الضرورية، لتقصرها على العشرات فقط، كما تحجب معدات التعقيم مثلًا، ما يجبر الجراحين حينها على إعادة استخدام أدوات جراحية دون تعقيم لها بين العمليات.
وعلى صعيد المضادات الحيوية التي تُؤخذ عن طريق الوريد، والعقاقير المضادة للسل، ومجموعات الغسيل الكلوي، ولقاحات شلل الأطفال والحصبة، ومكملات الحديد وحمض الفوليك اللازمين للأمهات الحوامل، والتركيبات والفيتامينات للأطفال الرضع؛ فهي إما أن يُرفض توريدها من الأساس، أو تُورد بكميات قليلة للغاية.
ولا يُسمح حتى بورق الرسم البياني الذي يستخدم في فحوصات رسم القلب. وفي مفارقة قاسية، توفر منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إمدادات وفيرة من شامبو القمل ومستحضرات علاج الجرب، التي يسمح بتوريدها بكميات غير محدودة من قِبل السلطات السورية، على الرغم من أنها ليست مطلوبة أو ضرورية من قِبل المدنيين المحتجزين الذين يحتاجون بشدة إلى الأنسولين ومعدات غسيل الكلى وغيرها من الأدوات أو العلاجات الأكثر أهمية.
وبعد عملية التصفية هذه للأدوية والأدوات الطبية، تقوم القوات الموالية للنظام عند نقاط تفتيش تابعة لها، بإزالة عدد آخر من الأدوات، أو تعمل على تلويثها، فتخلص مثلًا الأرز بفضلات الطيور أو بالزجاج.
في المقابل، فإن الطبيب الحجاج الشراع، مدير إدارة التأهب والاستعداد ورئيس مؤسسة شام وهي منظمة غير حكومية مُعتمدة من قِبل نظام الأسد وشريك تنفيذي رئيسي لمنظمة الصحة العالمية واليونيسيف؛ يقوم بكل أريحية بدور إعادة توزيع الأدوات المحذوفة لتحقيق مكاسب سياسية ومالية لنفسه. وهناك شريك آخر لمنظمة الصحة العالمية، وهي مؤسسة البستان، التي يملكها ابن عم الأسد ومجرم الحرب المعروف رامي مخلوف. وقد وُضع مخلوف على قائمة العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية في شهر أيار/مايو عام 2017 بسبب تورطه في قضايا غسيل أموال.
وفي أعقاب الشتاء البائس الأول لعام 2013/2014، عندما ارتفعت معدلات وفيات الرضع ارتفاعًا هائلًا لتصل إلى حوالي 300 لكل ألف مولود حي، مقارنة بـ18 في دمشق، أجبر الحصار الأهالي على بناء العديد من الأنفاق السرية التي تصل الغوطة الشرقية بأحياء في دمشق مثل برزة والقابون، وهما حيّان كانا تحت سيطرة قوات المعارضة آنذاك.
ولم تقتصر وظيفة هذه الأنفاق على السماح بمرور الغذاء والتجارة وحسب، بل إنها سمحت أيضًا بمرور كميات محدودة من المعدات الطبية والجراحية، والوقود اللازم لمولدات المستشفيات وسيارات الإسعاف، وإرسال العينات المستخرجة من مرضى السرطان لفحصها عن طريق بعض المعامل المتعاونة في دمشق.
وشكلت هذه الأنفاق لعامين ونصف متنفس حياة للغوطة الشرقية، وقدمت علاجًا أنقذ حياة آلاف المرضى، ووفرت ممرًا آمنًا لعشرات المدنيين الذين أرادوا مغادرة المنطقة. ثم تسارعت وتيرة المحاولات التي اضطلع بها نظام الأسد، بعد سقوط حلب في كانون الأول/ديسمبر 2016، من أجل العثور على هذه الأنفاق، ليسقط المخزن الذي يخفي مخرج النفق الرئيسي في أيدي الجيش السوري بنهاية شباط/فبراير 2017، ويصبح غير صالح للاستخدام.
وفي منتصف أيار/مايو 2017، اختُرقت الأنفاق الأربعة، ما أدى إلى اتباع آلية تدمير ذاتي لتجنب منح الجيش السوري خطوطًا مباشرة تسمح بدخولهم الغوطة الشرقية.
منذ ذلك الحين، والأطباء في الغوطة، يرسلون شهريًا قائمة تفصيلية باللوازم الطبية والجراحية العاجلة، والأدوية الضرورية التي يحتاجون إليها، إلى مجموعة صحية في دمشق ينظمها المكتب الأممي، وتقودها منظمة الصحة العالمية. لكن القليل فقط من القوافل هي التي يسمح لها بالمرور، وحتى تلك التي تمر، لا تتضمن في أغلب الحالات الحاجات السريرية الأساسية للمرضى الأضعف، أي النساء والأطفال.
وفي محاولة يمكن القول بأنها لتحسين صورة حصار قوات النظام، فإن تقارير الأمم المتحدة الخاصة بالقوافل الطبية، لا تذكر سوى أوزان المواد التي تسليمها والمواد التي مُنعت، فتذكر مثلًا أنه تم تسليم 500 كيلوغرام من المواد الطبية ومنع 50 ملليلتر من المواد الأُخرى، أن الـ500 كيلوغرام هذه قد تكون عبارة عن غسول القمل، غير المهم، بينما الـ50 ملليلتر هي مادة الأدرينالين التي تكفي لإنعاش عشرات القلوب!
ويثير الحرمان الذي تواجهه الغوطة الشرقية مزيدًا من القلق لأنه يحدث بالقرب من المعامل المتخصصة والصيدليات في دمشق وعديد من الأجهزة الإنسانية التابعة للأمم المتحدة في المدينة، التي تتضمن برنامج الأغذية العالمي ومخازن اليونيسيف الممتلئة بالغذاء والإمدادات الغذائية، وأكوام الأدوية الأساسية والأجهزة التي لدى منظمة الصحة العالمية، ومئات من عمال الأمم المتحدة وعمال الإغاثة الدوليين الآخرين. وتقع مدينة دوما، أكبر مدن الغوطة الشرقية، على بعد أقل من 10 أميال من مكتب منظمة الصحة العالمية في دمشق وفندق فور سيزونز الفاخر الذي ترتاده الهيئات التابعة للأمم المتحدة.
وبينما كان مسؤولو منظمة الصحة العالمية يطلبون المعجنات الفرنسية ورقائق كعك الشوكولاتة لاجتماعات مجموعاتهم الصحية في فندق فور سيزونز، التي كانت تزامن حصار سابق؛ كان الأطفال يأكلون الحشائش ويشربون من برك المياه في داريا.
وفي 26 تشرين الأول/أكتوبر 2017، احتاج 430 مريضًا في مرحلة حرجة إلى الإجلاء من الغوطة الشرقية. وتوصل اجتماع رفيع المستوى، بقيادة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، إلى إجلاء 29 مريض خلال 48 ساعة والتوجه بهم نحو دمشق.
استغرقت عملية الاختيار ليلة كاملة من المشاورات المؤلمة لأطباء الغوطة الشرقية كي يقرروا المرضى الـ29 الأكثر حاجة من بين هذا العدد الكبير. وفي 27 تشرين الأول/أكتوبر، أرسلت القائمة إلى مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، مع نسخة إلى منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف، إلا أن شيئًا لم يحدث في هذا الصدد. وخلال الشهرين التاليين، لم تعد القائمة بهذا القدر من الأهمية إذ مات أكثر من نصف هؤلاء المرضى البالغ عددهم 29 مريضًا، فقد مات 18 مريضًا منهم.
وفي مناشدة يائسة بخطاب يائس كتبه أطباء الغوطة، طالبوا منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة بتحديد معايير لمن يجب أن يعيش ومن يجب أن يموت ليكون الاختيار أسرع. وحتى هذا لم يحصل الأطباء على إجابة عليه.
أخيرًا، وبعد ضغوط من المبعوث الأممي إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، وافق النظام السوري على السماح بإجلاء 29 مريضًا. وبدأ الأطباء بإعداد قائمة جديدة، واستبدلوا الأحياء بالأموات من القائمة القديمة، واستبدلوا أسماء المهددين بالاعتقال في حال وصولهم لمناطق النظام، بآخرين.
ثم حين جاء وقت الإجلاء، أصر النظام على أن تكون عملية تبادل مقابل 29 من مقاتليه الذين كانت المعارضة في الغوطة قد أسرتهم، ليكون الأمر في جوهره استغلال للمدنيين المرضى في عملية تبادل رهائن!
ويمكننا هنا عقد مقارنة بين ما يحدث في سوريا، وبين ما سبق وحدث قبل ذلك كالحال مع حصار لينينغراد في الحرب العالمية الثانية، حيث سُمح لـ 1.3 مليون مدني المغادرة دون التعرض لأي أذى. وخلال حصار سراييفو بين عامي 1992 و1996، عندما أُجلي مئات المرضى إجلاءً طبيًا بأمان.
من جانبها تدافع منظمة الصحة العالمية عما تقوم به، ففي قمابلة أجرتها إليزابيث هوف مع قناة الجزيرة في الثامن من كانون الثاني/يناير الماضي، وهي ممثلة المنظمة في سوريا، قالت: "لقد فعلنا كا ما بوسعنا لنساعد في الإجلاء الطبي".
لكن ما لم تتعرض له هوف، هو السبب وراء استمرار منظمة الصحة العالمية في طلب مئات الملايين من الدولارات من أجل الإمدادات الطبية التي من الواضح أنها لا تذهب إلى الذين يحتاجونها بشدة في الغوطة الشرقية، وبدلًا من ذلك تستفيد بها المنظمات غير الحكومية التي تديرها عائلة الأسد وأصدقاؤه!
إن استمرار منظمة الصحة العالمية في دعم الجيش السوري الذي يستهدف المدنيين ويفرض كافة أشكال الحصار القاتلة عليهم، يعني أن المنظمة تخفف على النظام عبء شراء هذه المستلزمات بنفسه. ويكون الأثر الذي يعقب ذلك منح الحكومة التمويلات اللازمة لشراء القنابل التي تُستخدم في قصف المستشفيات والمؤسسات المدنية الأخرى.
وثمة دعم مشابه يأتي من العمليات التابعة للأمم المتحدة في دمشق. توزع الأمم المتحدة، بإلحاح من النظام السوري، مليارات الدولارات من المساعدات عبر دمشق. ولا يوجد دليل يفيد بأن هذه التمويلات تُوزّع على المجموعات الأكثر احتياجًا.
وتبرر الأمم المتحدة هذا الوضع الراهن بشيء قريب من نظرية الانسياب التدريجي للمنافع، التي تعني أن بعض الأشخاص سوف يحصلون في النهاية على شيء ما. بيد أن ذلك الزعم يتجاهل الدور الذي تقدمه هذه المساعدات في تمكين الحكومة السورية من الاستمرار في جرائم الحرب التي ترتكبها.
تستمر "الصحة العالمية" في طلب ملايين الدولارات لإمدادات طبية تذهب في النهاية لمنظمات يديرها أفراد من عائلة الأسد وأصدقائه
وفي غضون ذلك، يتواصل تعرض الأشخاص الأشد احتياجًا -الذين ينبغي أن يكون لهم الأولوية الأولى لمنظمة الصحة العالمية- للقتل عن طريق الغارات الجوية أو يُتركون لمواجهة الموت جرّاء الحرمان المتعمّد من الغذاء والمساعدات الطبية التي تقدمها منظمة الصحة العالمية.
وبعد أربع سنوات ونصف من الحصار الذي يستخدمه نظام الأسد كوسيلة للحرب، فشلت هيئات الأمم المتحدة في الإجابة على السؤال الجوهري الذي يتعلق بما إذا كانت عملياتها في دمشق، ومن خلال دعمها لهذه الأعمال الوحشية؛ تتسبب في أضرار أكثر من جلبها للمنافع.
اقرأ/ي أيضًا:
كيف مولت الأمم المتحدة بشار الأسد؟
الجيش في سوريا.. من عقائدية المؤسسة إلى مليشيا العائلة وطائفيتها