31-ديسمبر-2023
مصطفى الحلاج

لوحة لـ مصطفى الحلاج/ فلسطين

حين سمعتُ صوته للمرة الأولى، والوحيدة، واجهتُ نبرة موته الواضحة، التي يبدو أنها لم تعد ترضى بالتخفي بين ألفاظ الكلمات، كما يمكنها أن تفعل عند سواه من الناس الذين يعيشون يومًا وراء يوم كي يُخفوا ملامح موتهم.

هدفت المراسلة إلى جمع معلومات عن مدينة غزة التي وُلد فيها قبل حرب النكبة، ولم يعطه الحظ غير سبع عشرة سنة من التلاقي، ثم غدا غريبًا عنها حتى يوم رحيله أمس. ومع ذلك تحدث عن غزته، تلك القديمة التي عرفها زمن الصبا وكأنها تقع خلف باب بيته وسط الجزائر حيث انتهى، فهو يعرف جيدًا أنّ المسافات والزمن لا يمكنها المسّ بالعلاقة الحية مع المكان في داخل كل منا.

وجد الموت مسربًا في صوت الرجل الغريب من الحقيقة الغزية التي نعيشها جميعًا، حيث إننا نموت مع هذا الموت، وعلى مبدأ عجائب كبرى تتجلى كل ساعة هناك، مثل جنين يولد ميتًا فتصدر له شهادة وفاة دون حصوله أبدًا على شهادة ميلاد، مات الرجل بالقصف الذي يبعد عنه آلاف الكيلو مترات.

الحوار إجابة على مجموعة من الأسئلة الفضولية لشخص يرغب بالكتابة، والمجيب يردّ في رسائل صوتية يسابق فيها الزمن والموت الذي يكبر فيه، لتكون النتيجة هي حياة موجزة في زمن الحكم المصري للقطاع، وتكون الإجابات العابرة والسريعة شهادة لا تكتفي بما تقوله في متنها، بل ترينا كيف أنه بوسع الراوي أن يحمل في جسده مصير بلاده.

قائد الفدائيين في غزة الخمسينات هو الضابط المصري مصطفى حافظ، مدير مخابرات غزة. اغتيل في الخمسينات من القرن الماضي. سميت مدرسة على اسمه في الرمال

اسمه رفعت القيشاوي. هو والد صديقي محسن. والجميلون من آباء الأصدقاء هم آباء لنا أيضًا، حتى لو بخلت الحياة علينا باللقاءات الكافية.

قال الرجل في بريده الصوتي: "في حرب فلسطين عام 1948، كنت أبلغ من العمر ثلاث سنوات. أتذكر الطائرات الإسرائيلية تحلق في السماء، لكنني لم أعرف لماذا وقتها. أدخلني أهلي روضة أطفال تابعة للكنيسة الأرثوذكسية بجانب مسجد الإمام الشافعي، في حي الزيتون، وكان في الكنيسة روضة وناد رياضي والمستشفى المعمداني".

وتابع: "في 1953 و1954، كنت أشاهد مظاهرات في غزة يقودها الشاعر معين بسيسو. ولم أعِ شيئًا. عرفت لاحقًا أنها مظاهرات ضد توطين اللاجئين الفلسطينيين في صحراء سيناء، ففي ذلك الوقت جاءنا مشروع الرئيس الأمريكي أيزنهاور لتوطين اللاجئين الذي وفدوا إلى قطاع غزة بعد النكبة. نجحت المظاهرات ومنعت التوطين. في عام 1956، حضرت الاحتلال الإسرائيلي الأول لقطاع غزة، وقت العدواني الثلاثي على مصر. بقيت إسرائيل ثلاثة شهور في القطاع. وبعد الضغط الأمريكي الغاضب من العدوان لأن الولايات المتحدة لم تُستشر انسحبت إسرائيل، ودخل إلينا بوليس دولي من دول مختلفة، منها البرازيل والسويد والنرويج والهند.. وغيرها. في ذلك الوقت كنت في مدرسة اليرموك الإعدادية، وبعد سنة ذهبنا في رحلة مدرسية إلى بورسعيد تضامنًا مع المدينة التي تم احتلالها من الإنجليز. وزرنا متحف الشهيد جواد حسني. لا شيء يشبه التضامن الذي شهدته بين سكان فلسطين في غزة من جهة، ومدينة بورسعيد وكل الشعب المصري من جهة أخرى. عندما حصلت على الثانوية العامة عام 1962، انتقلت للدراسة في كلية الزراعة بجامعة القاهرة. وفي عام 1967، كنا نرى الدبابات تسير في القاهرة بكميات كبيرة وضخمة وعلنًا، ولم نفهم معنى ذلك. أتذكر بأنني قمت في اليوم الأول من شهر حزيران بتقديم مادة الحشرات، وفي اليوم التالي قام العدوان على مصر من إسرائيل، واحتلت غزة وصحراء سيناء، ووصلت حتى قناة السويس.

بعد ذلك تخرجت ولم أقدر على العودة لغزة، أنا وأخي الكبير وأختي المتزوجة في السعودية، لأن إسرائيل عندما احتلت القطاع أحصت السكان ولم تحتسب المسافرين، ولهذا لا أُعتبر مواطنًا غزيًّا حتى هذه الساعة. قدمنا نحن الثلاثة عدة طلبات للأمم المتحدة للمّ الشمل، ودائمًا ترفض إسرائيل طلباتنا. ابن أختي عاد مع السلطة الفلسطينية عام 1993. والآن استشهد في هذه الحرب هو وزجته واثنين من أبنائهما، وهما في عمر الجامعة، واستُشهدت زوجة عمه وابنتها وابنها، إلى جانب ابن عم آخر له. قدري أن أعرف أقاربي في موتهم لا في حياتهم!".

ثم أكمل في رسائل أخرى: "بالنسبة لإقامتي التي انتهت 1962 في غزة، فإن أهم شيء بالنسبة للشباب من جيلنا هو الذهاب إلى البحر، والتمتع به طيلة شهور الصيف، وكذلك زيارة دور السينما، وكان في المدينة الكثير منها: سينما السامر وسينما النصر. وإلى الأندية الرياضية الكثيرة، ومنها ما يتبع للإخوان المسلمين وما يتبع للكنيسة".

وقال: "تشتهر غزة بالأعمال الفدائية كما تعلم، في كل المراحل كان الشباب يقومون بالعمليات في إسرائيل وهي ترد بقتل المدنيين. منهم أبو جهاد الوزير. قائد الفدائيين في الخمسينات هو الضابط المصري مصطفى حافظ، مدير مخابرات غزة. اغتيل في الخمسينات من القرن الماضي. سميت مدرسة على اسمه في الرمال".

قال رفعت: "إخوتي الباقون هناك هم ثلاثة وأخت واحدة، الآن هُجّروا إلى مدينة النصيرات، ويعيشون في بيت واحد، يحتوي على 170 ساكنًا. منذ عام 1962 فقدت الصلة بأبناء حارتي، غير أن انتشار المنصات جعلني أعثر عليهم. منهم من لم أره منذ خمسين أو ستين عامًا، والآن نتواصل.. وتخيل أنني فقط أتلقى أخبار موتهم. كأني التقيت بهم لأحمل موتهم".

رحل رفعت القيشاوي، الرجل الذي التقيته صوتيًّا في رسائل هاربة من الزمن، وكأنها تعليق معانِد عليه. رحل ليقول إن الإنسان على شكل مكانه رغمًا عن أنف الفيزياء، وإنه يظلّ فيه ويعيش ما يعيشه رغمًا عما تريده الأقدار.

بذلك حقّق معادلته الفلسطينية الخاصة، وبذلك صنع عودته التي بدت مستحيلة.