04-مارس-2016

يتضح أننا فقط نتبنى المواقف والآراء التي تحابي سمات شخصيتنا(جون فيرث/Getty)

لم تعد الحياة تعني بالمفهوم التقليدي السابق، أنها تلك الدائرة التي ندور في فلكها، فهي تكاد تكون أقرب إلى المثلث منه إلى الدائرة، وهي بذلك يزداد مفهومها تعقيداً، لأن جوهر هذا التركيب هو مزيج من: (مشاعر- أنانية- ضحايا- سعادة). باكورة تكوين هذا الهرم يبدأ من تلمّس المشاعر التي تكون في كثير من الأحيان محور ارتكازها الأنانية، ومن ثم تسوقنا هذه  النزعة النرجسية، إلى سحق كل ما يمكن أن نراه عائقًا من وجهة نظرنا في سبيل تعزيز ذواتنا، دون أن نكترث لحجم الضحايا الذين نخلفهم في طريق البحث عن السعادة التي ندعيها.

العلاقات الإنسانية أقرب ما تكون إلى علاقات مبنية على مصلحة ذاتية، بحيث أننا نرتبط بالاشخاص الذي يمكنهم أن يدفعونا خطوة باتجاه أعلى الهرم

هؤلاء الضحايا ليسوا محض أشخاص عاديين كما توحي لنا بنات أفكارنا، بل هم خليط من العواطف والمشاعر والأحاسيس والضمائر، توجعهم قلوبهم كما أوجعتنا قلوبنا حينما سبقنا غيرنا وحولنا الى ضحايا في سبيل تحقيق سعادته المزعومة.

اقرأ/ي للكاتب: في رأس السنة لا عزاء للكادحين

يستصعب علينا في لحظة ما استيعاب حجم الضحايا أو الإحساس بعمق الألم، الذي من الممكن أن نتسبب فيه، نتيجة ارتكابنا حماقات معينة كنا ننظر إليها على أنها الخطوة الأمثل تلبيةً لاحتياجاتنا الشخصية، وهذا كله يعكس السمات التي فطرنا عليها أي أننا نحب أنفسنا أكثر من أي شيء آخر. ولهذا قد يكون وصف الله في الآية التاسعة من سورة الحشر، أولئك الذين يؤثرون على أنفسهم، بقوله (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأنه خلقنا ويعلم ما توسوس به صدورنا وأن قليلًا منا من يفلح في إيثار الغير عن النفس.

يتضح أننا فقط نتبنى المواقف والآراء التي تحابي سمات شخصيتنا، خصوصا من الناحية العاطفية أو على الأقل تعزز لدينا الجوانب الانسانية التي نفتقدها في ضوء انشغال العالم المحيط بالمشاكل والهموم المختلفة. بعض الأشخاص الذين يقابلوننا في لحظة عفوية، نرتبط بهم ارتباطًا اعتباطيًا دون وجود سبب منطقي مفسرًا لهذه الحالة. نذعن وننصت إلى هؤلاء بمجرد أن يسردوا تفاصيل أمورهم، لاسيما إذا إعطوننا إيحاء بأنهم ضحايا أو حاكوا أنماطنا الفكرية أو الحياتية. معنى ذلك أنهم بعد وقت قليل سيصبحون جزءًا منا، ومن هنا تتشكل القاعدة العريضة لهذا الشكل الهرمي، على اعتبار أن علاقات سابقة باتت خلف ظهورنا، بمجرد ارتباطنا بأشخاص جدد. من هنا تتجلى واقعية ما أقول، بأننا كلما نشعر بالأذى عندما يجافينا الوسط المحيط (الأهل، الأصدقاء، المعارف)، نقترب أكثر من أشخاص جدد، وبالتالي نصبح جلادين من وجهة نظر الوسط، فيما يتحولون هم إلى ضحايا.

عندما نقول أننا نحب مثلًا، فنحن هنا لا نحب لأننا نمارس طقسًا فطرنا عليه، ولكننا نحب الأشخاص الذين يمنحوننا الحب أكثر من أي أحد آخر

عندما نقول أننا نحب مثلاً، فنحن هنا لا نحب لأننا نمارس طقسًا فطرنا عليه كنبتة آلهية زرعت في جوف كل منا، ولكننا نحب الأشخاص الذين يمنحوننا الحب أكثر من أي أحد آخر. وهذا يعلل إعراضنا عن محبينا عندما لا تكون حالتهم المزاجية جيدة، أو لا تتوفر لديهم الظروف المواتية التي تعينهم على التعبير عن أحاسيسهم وعواطفهم الصادقة تجاهنا. من هنا يتبين أن العلاقات الإنسانية أقرب ما تكون إلى علاقات مبنية على مصلحة ذاتية أكثر من أي عنصر آخر، بحيث أننا نرتبط بالاشخاص الذي يمكنهم أن يدفعونا خطوة باتجاه أعلى الهرم. 

اقرأ/ي للكاتب: عن أي حصار يتحدث الغزيون؟

نحن لا ندرك في هذه الحالة التي يتحكم فيها العقل اللاواعي بصفته مركز السلوك والطباع، أننا نمارس الحماقة ذاتها التي ارتكبت بحقنا عندما عشنا دور الضحية. وحتى لا يتوه القصد من المقال، فإننا عندما نرى أشخاصاً يحاولون الاقتراب أكثر من محبينا نستشعر الخوف فوراً لأن مصالحنا مع هؤلاء الاشخاص الذين يعززون الأنا لدينا ويمنحوننا الحافزية للاستمرار في الصعود ستكون مهددةً بالاندثار أو التراجع، وبخاصة أنها ترتبط عكسياً، فكلما تعززت العلاقة بين (الدخلاء) ومن نحب، كلما تراجع مستوى اهتمام من نحب بنا، وهذا يدفعنا إلى أن نمارس دور الضحية إلى فترة معينة، حتى نتأهل إلى دور الجلاد ومن ثم ننتقم بطريقة لاواعية.

الحقيقة الجارحة، أننا لا نقبل بأقل من دور ضحية في نظم علاقاتنا مع الآخرين، حتى نعطي أنفسنا الحق في أن نصبح جلادين لاحقًا، من دون أن نمنحهم الحق في سوق مبرراتهم، أو مراعاة إنسانيتنا.

اقرأ/ي أيضًا:

جرائم نخب العالم ضد الإنسانية

في نفسية الطاغية