11-مايو-2016

(أتلانتيك برس)

لعبت المواخير والبلاليع دورًا هامًا في القرون الوسطى، وفي الإمبراطورية البيزنطية والشرق القديم. فيها ولد الطاعون، وفيها مات الطغاة، بهذه العبارة يختصر الروائي والفيلسوف الفرنسي فكتور هيجو تاريخ الحضارة البشرية في تحفته الأدبية "البؤساء".

في القرن الحادي والعشرين، شبه طاغية شعبه الثائر لأجل الحرية بالجرذان، فقضى كالجرذ في مجرور للصرف الصحي

إن البلاليع هي "ضمير المدينة"، وبها تعيد تكوين المدينة، هي التاريخ الحقيقي للبشر، فالتاريخ يمر من خلال البالوعة، حسب فلسفة هذا الروائي العظيم. أغلب الظن أن هيجو يعلم أن نبوءته هذه لا زالت تحتفظ ببريقها إلى اليوم وستظل كذلك أبدًا، وأن طاغية عربي في القرن الحادي والعشرين، شبه شعبه الثائر لأجل الحرية بالجرذان فقضى كالجرذ في مجرور للصرف الصحي، لكنه قبل أن يموت تناسلت المجارير من جسده كائنات مسوخ على شاكلته لتحول ليبيا إلى مستنقع، والمصير ذاته ينتظر طاغية آخر شبّه شعبه بالجراثيم، فقام بفتح جروح بلد وأمعن نكأها كي لا تندمل، فنَتُن الجرح وصار مرتعًا لجراثيم الأرض، كذلك كان حال العراق العظيم واليمن الحزين.

اقرأ/ي أيضًا: تحرير سرت.. معركة "الإخوة الخصوم"

الطغاة جعلوا من بلدانهم مستنقعات، ونبوءة هيجو تحققت، فالبلاليع التي يولد منها الطاعون يموت فيها الطغاة، وفيها يرتع الجرذان، لذلك يحكم أغلب الطواغيت بلادهم من تحت الأرض لأنهم يخشون النور. صدام حسين أنهى حياته في جحر، والقذافي أيضًا، كذلك حال القادم من الطغاة ومن تبقى منهم، حتى "طغاة" أمريكا الذين بنوا حضارتهم على جثث شعب بأكمله، وكذلك حال باقي صناع الحضارات، يبدو أن حضارات البشر لا تبنى إلا على جثث الشعوب الأخرى. هكذا يتجلى وهم الحضارات فمقابر البشر التي يدفنون فيها نفايات أجساد موتاهم، هي ذاتها البلاليع التي يدفن فيها البشر نفاياتهم.

في بلاد الطغاة لا يوجد متسع حتى لقبر، فكم من جثة تركت تحت العراء تتفسخ، وعلى مقربة منها وضع الطاغية قناصًا كي لا يتم دفنها، لتصير الجثة المتفسخة الوجه الحقيقي لنتانة الطاغية، هذه النتانة مسكنها الطبيعي البلاليع هناك حيث ينهي الطغاة حياتهم، وللبلاليع تاريخ يرتبط بمآسي الحضارة.

"إن تاريخ البشر ينعكس في تاريخ البلاليع"، يقول فيكتور هيجو في "البؤساء"، و"معرض جثث المذنبين يروي قصة روما. كانت البالوعة شيئًا فظيعًا في الزمن الماضي". يتابع هيجو: "كانت قبرًا، كانت ملجأً. ففي هذا الثقب اختبأت الجريمة، والذكاء والاحتجاج الاجتماعي، وحرية المعتقد، الفكر، واللصوصية، وكل ما تلاحقه القوانين الإنسانية أو قد لاحقته... إن البالوعة في باريس القديمة، هي ملتقى جميع القنوات وجميع التجارب. إن الاقتصاد السياسي ليرى فيها نفاية، وإن الفلسفة الاجتماعية لترى فيها ثُفلًا".

البالوعة ضمير المدينة، الأشياء كلها تتجه إليها، وتتقابل فيها، في ذلك الموطن المكفهر ظلمات

اقرأ/ي أيضًا: العلويون.. أبناء الخوف أم رعاته؟!

"البالوعة ضمير المدينة"، محقٌ هيجو، إن الأشياء كلها تتجه إليها، وتتقابل فيها، في ذلك الموطن المكفهر ظلمات، ولكن ليس فيه أسرار. إن لكل شيء شكله الحقيقي، أو على الأقل شكله الحاسم. فمن حسنات ركام الزبالة أنه ليس كذابًا. لقد التجأت الصراحة إليها... جميع قذارات الحضارة تقع، حالما يستغنى عنها، في حفرة الحق هذه، حيث يوضع حد للانزلاق الاجتماعي الهائل. إنها تُبتلع، ولكنها تتجلى هناك. وهذا الاختلاط هو اعتراف. فههنا تنعدم المظاهر الكاذبة، ويتعذر كل تجصيص، ويخلع القذر قميصه، عري مطلق، وانهزام للأوهام وضروب السراب، لا شيء غير ما هو كائن، متخذا صورة الشيء الآفل الكالحة. الحقيقة والزوال. هنا، يعترف قعر الزجاجة بالسُّكْر، وتروي يد السلة قصة الحياة المنزلية. هنا، يعود قلب التفاحة الذي كانت له آراء أدبية قلب تفاحة من جديد.. وتلتقي بصقة قيافا (الكاهن اليهودي الذي حكم بالموت على يسوع المسيح) بقيء فالستاف (أحد شخصيات شكسبير الذي يمثل الرجل الداعر الوقح)، وتَصدمُ ليرة اللويسبة الذهبية الخارجة من نادي القمار المسمارَ الذي يتدلى منه حبل الانتحار القصير، ويتدحرج جنين أزرق ضارب إلى السواد مغلفًا بالترتر البراق الذي رقص الأوبرا يوم ثلاثاء المرفع الأخير، وتتمرغ قلنسوة حاكمت الناس إلى جانب نتانة كانت تنورة لمارغوتون. إنه أكثر من إخاء، إنه غاية الغاية في الألفة والود. إن كل ما تبرج يتسخ، إن الحجاب الأخير ليُنتزع. البالوعة بذيئة. إنها تروي كل شيء.. إن المذابح لترشح هناك، قطرة قطرة، عبر حجارة الأرصفة. والاغتيالات العمومية الكبرى، والمجازر السياسية والوطنية تجتاز قبو الحضارة هذا، وتدفع صرعاها إليه، هناك يتبدى لعين المفكر جميع القتلة التاريخيين راكعين في الظلمة الرهيبة، وقد اتخذوا من أكفانهم مآزر لهم وراحوا ينظفون فعلاتهم على نحو حدادي... هناك يكشطون الحجارة ويحاولون أن يمحوا آثار أعمالهم... هناك نستروح نتانة الكوارث الاجتماعية الهائلة.. هناك تجري مياه فظيعة غُسلت فيها أيد دامية... بالبواليع تعيد تكوين المدينة، وبالوحل تعيد تكوين عاداتها... إنها تجد في الذي تبقَّى ما كان: الخير، الشر، والباطل، والحق، ولطخة الدم في القصر".

أنهيت قراءة هذه الفقرات المرعبة في قسوتها لحقيقة تاريخ الحضارة البشرية وتمنيت لو كان هيجو على قيد الحياة تمنيته أن يتأكد من صدق فلسفته، لكني متأكد أن أرواح العظماء تبقى أبدا تحلق في الفضاء لتراقب كيف حاد البشر عن حكمتها وكيف شرّح مبضع أقلامهم جسد الحضارة ليكشف حقيقتها النتنة.. الحضارة ذلك الوهم المقيت الذي نمزق أجساد بعضنا لأجل امتلاكه.. أرواح العظماء تطير فيما تغوص أجساد الطغاة في بواليع التاريخ... تمنيته أن يكون حيًا ليرى كيف أنهى طغاة عصرنا اليوم حياتهم في بواليع مدنهم، وكيف ينتظر آخرون برعب نهايتهم المحتومة فيها، تمنيته أن يشاهد كيف احتمى طغاتنا بالبواليع لكنهم نثروا فيها بقايهم النتنة لتفرخ البلاد قاذورات على شاكلتهم وتنهش في أجساد أهلها الطيبين. 

نم قرير العين هيجو واترك روحك في الفضاء فبواليع مدننا تكفي لحثالة الأرض جميعًا.

اقرأ/ي أيضًا:

التونسيات.. لا جدران مع الفضاء العام

ماذا بعد فوز مسلم بعمودية لندن؟