28-فبراير-2021

لوحة لـ ريموندز ستابرانس/ أمريكا

سأصبُّ كأسي الألف وأرددُ مع ابن الريب..

"يقولون لا تبعد وهم يدفنوني.. وأين مكانَ البُعدِ إلاّ مكانيا".

ثقيلٌ هذا الثلج تحت قدمي، لا يشبه الصور أبدًا، ليسَ رومانسيًا كما يدّعون، وبرغم كلِّ محاولاتهم لنتصاحب إلاّ أن يباسةَ عقلي ترفضُ إستقباله كصديق يمكن أن أُسرُّ له في ليلةٍ كهذه، بعضًا منّي.

أنا الغريب الذي يُسأل إن كان وصل لبلادنا "الشامبو"، وإن كُانت أراضينا رملٌ صحراوي ناعم، ونُسأل أيضًا عن ظُلمنا للمحتل وكراهيتنا "غير المبررة" لهم.

سأتركُ الكأس يتكلم..

حين سألني موظف أمن المطار عن سبب بكائي، لم أجد إجابةً غير أنني أبكي على المسافة، تلك التي نحتاجها أن تكون قصيرة أثناء بحثنا عن الكتف الذي اعتدنا عليه، أو التي تبعدنا عن الرائحة التي صارت جزءً من طفولتنا، عن المسافة ما بين ألمٍ يُصيبنا فنصرُخ "أخ" وبين الأخ، مسافةُ طائرتين، وثلاثة قاراتٍ، وعقاربُ ساعة تتأخر سبع ساعاتٍ كاملة عن تلك المعلقة على حائط البيت.

يُصبح البرد أكثر قسوة حين يتحد مع الغُربة.

نفرح بانتصارانا على متطلبات دولةٍ عُظمي لتستقبلنا كأننا منها، ننتشي بإنجازٍ يشكلُّ حُلمًا للكثير، نمشي واثقين من غطاءٍ بإمكاننا أن نشدّه علينا إن لزمَ الأمر، وخلفَ ظهرنا دفترٌ كُحلي صغير يفتحُ أبوابًا أغلقتها تفاصيلٌ لا يدَ لنا فيها، ضحايا صراعات قديمة نحن، ندفعُ ثمنَ غطرسةَ أحدهم، وعنجهية الآخر.

نُصرُّ على الحياة التي نُريد غافلين تمامًا عن القطار الذي لن نلحقُ به وسيتركنا على رصيفِ المحطّة، نُسابقُ صوتَ النداء ألآلي لنصعد، فنجدُ أن العربة إمتلأت ولا مكانَ لنا فيها.

مخادعٌ حضنٌ هذه الأماكن، ومؤقت. وفي اللحظة التي تعتقد أن لكَ شيئًا فيها، تتحالفُ حجارة المباني – معكَ أو ضدّك لا فرق – ليصلَ إليك صوتٌ خافت يقتل أحلامكَ كلها ويتركك في آخرِ الطابور تنتظر الوقتَ ليمضي، تُمضى أوراقك بميلادٍ جديد ويُختم على القلبِ إسمٌ آخر للوطن.

الكأس الثانية بعد الألف،

راح ابن الريب وتركني أتحسس الأرض من تحتي.. "هذه الليلةُ كلّها لابنُ الريب" *.

لم يُغْنِ اخضرار هذه المساحات عن حرِّ اعتدناه، والتحية تفقد طعمها حين نسمعها بلغةٍ أخرى، تتلقاها الأذن بحيادية الأصم حينَ يرى شفاهًا تتحرك، وبرودٌ غريب يستفزّنا.

"يقولون لا تبعد.."

ولا تشرب كأسكَ وحيدًا، لكنهم لا يعلمون أن الوحدة التي نختارها تمتلئُ بمن نُحب أن يكون معنا، وأن النخب الذي سنقرعه بصحته سيصله ولو كانَ بعيدًا، وهو، في اللحظةِ ذاتها، سيطرقُ نخبنا دون أن ندري، لأننا ببساطة الكلمات بعد كل هذه الكؤوس، حقيقيونَ أكثر من هذا الوهم.

تعلّمنا أن نفتح الباب لمن يقف خلفه، وأن لا ننام إن سمعنا معدةً تهتزُّ جوعًا.

"بسهخّتك" يرددون بفعلِ الفضول لا أكثر، هذه التي تعني لنا أكثر من ذلك بكثير، تصيرُ كلمةً جديدة في ذاكرةٍ قصيرة لا تتجاوزُ بابَ البار.

لكنّنا،

على استعداد لنقطع بلادًا كاملة لنعانقَ كأسًا بكأس، ونكملُ الألفية الثالية بصحّة سهرة أخرى هُناك، في المكان الذي تركنا فيه كلَّ ما فينا، وجئنا هُنا بما فاضَ عنّا منّا.

"وأينَ مكانَ البُعد إلاّ مكانيا"

قريبُنا البعيد، وبُعدنا القريب، مؤقتٌ ككل شيء.

 

هامش

 

اقرأ/ي أيضًا:

صراع الطوابير

للهمزة في اسمكَ