في فيلم "يد إلهية" للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان مشهدٌ استعصى عليّ فهمه سابقًا. يقف رجلان أنيقان بثياب رسمية في ورشة تصليح، وأمامهما رجل يلحم قطعة حديد وقد ستر وجهه بقناع مخصص للتلحيم.
ما أثقل أن يتحول كل نقاش في الغربة مع مواطني بلدك الأصلي إلى عظةٍ وتسلط وانتهاك لخصوصياتك!
يطل من البعيد شاب من باب الورشة بمشية غريبة تشي بعدم اتزانه، فيسارع صاحب الورشة بإخبار الرجلين أن ذلك الفتى سينطق بالرقم ستة في كل جملة من جمل حديثه، غير أن الفتى يسأل عن أحوال العمل ثم يغادر بعد أن يواجهه صاحب الورشة والرجال بالصمت المطبق، لنظن بأن الموقف قد انتهى هنا، وبأن توقعات صاحب الورشة خابت، فيفاجئنا الشاب برجوعه مسرعا ليخبر الجميع بأنه "البارحة في حوالي الساعة ستة كان بجيبته ستة وستين شيكل، وراح لعند التركي جاب صينية فول سيريه بستمية وستة وستين شيكل وربح فيها، وراح"، ويسأله رجل: "شو هاد فول سيريه؟"، فيجيبه: "هاد لما بتجيب ستة ستة ستة ستة، أربع ستات". ثم يغادر المكان وينتهي المشهد.
اقرأ/ي أيضًا: الدم أكثر كثافة من الماء
أعود للقول، لقد استغلق عليَّ فهم مرام المخرج - المؤلف من هذا المشهد الطريف، ولولا قوة المشهد تعبيريًّا لاحتجبَ عن ذاكرتي كما تحتجب الكثير من القصص، لكنني استحضرته من الذاكرة منذ عدة أيام بعد أن التقيت صدفة بشخص ذي ميول إسلامية، إثر دعوة تلقيتها للمشاركة بجلسة شاي في أحد مقاهي مدينة هلسنكي الفنلندية.
كان لقاء اعتياديًا بين عدد من المغتربين ومن المهجرين قسرًا من بلدانهم، تمحور الحديث، كما العادة، حول أوضاع البلد المضيف بشكل عام، خاصة بعد تسلّم الحكومة اليسارية دفة الحكم وإقصاء اليمين المتطرف.
تناول نقاش الأصدقاء آليات البت المعتمدة فنلنديًّا في منح الجنسية والإقامة ومعوقاتهما. تخلل تلك الأحاديث بعض الاختلافات في وجهات النظر، وأبدى الجميع آراءهم وفقًا لخبراتهم المكتسبة، غير أن ما لفت انتباهي طيلة الجلسة كان صمت الضيف الذي اكتفى بالسماع دون أي ينبس ببنت شفة حول أي من الثيمات التي طرحها الجمع.
ثم حدث ما لم أتوقعه، نطق الرجل أخيرًا، وبدا لي أنه كان ينتظر الفرصة السانحة كي يمتلك المنصة وحده ليتحدث بالخلاصة، فقال معقبًا على كل ما جرى بيننا من تضارب معلومات وآراء ما معناه: يا أصدقاء، نحن هنا مجرد ضيوف غرباء، لا نمتلك من أمرنا شيئًا، وليس لنا إلا ديننا ليحفظنا ويحفظ لنا هويتنا، بل إننا ضيوف عابرون على الحياة نفسها، فلماذا نجهد ذواتنا بالقلق، وأدمغتنا بالتفكير، وننشغل بالفانيات عن الباقيات، ونلهث وراء المؤقت والزائل؟
وتابع حديثه بثقة خطيب مسجد، فانتهرنا، وزجرنا، وبالغ في النيل من طريقة عيش سكان البلد الأصليين، بحسب وصفه، ومن لباسهم وطعامهم وعاداتهم.
لم يخل الأمر من المقاطعات من قبل بقية الشباب، لكن وبقدرة قادر تحول البعض في النهاية، لهزّازي رؤوس وموافقي رأي دون اعتراضات.
لن نتمكن، حتى بالتزامنا الصمت التام وعدم الخوض في نقاش عقيم، من تجاوز رغبة البعض بالنطق بما اعتادوا على نطقه
جال في بالي بعد انفضاض المجلس ذلك الهاجس الذي يصيبني في العادة بعد أن أجالس شخصًا لا يجد عزاءه سوى باللجوء لدينه كلما اعترضته صعوبة حياتية، حيث ينبغي أن يواجهها بالتحدي والدراسة لا بالنكوص للموروث. وما أثقله من هاجس، أن تخالط نفسك الرغبة بعدم الاحتكاك بمواطنك في غربتك القسرية، لعلمك بأن كل حديث يدور بينك وبينه سيتخذ فجأة من قناة الدين دربًا، وأن كل نقاش سيتحول لاحقًا إلى عظةٍ وتسلط وانتهاك لخصوصياتك، ولمنهجك في التفكير، ولطريقة معيشتك مع زوجتك وأولادك، دون أن يدرك ذلك الإنسان بأنه يقحم نفسه في مواطن لا شأن له بها.
اقرأ/ي أيضًا: نظرية نيوتن السوري
أسعفني إيليا سليمان بعد أن تذكرت ذلك المقطع من "يد إلهية"، وأدركت أننا لن نتمكن، حتى بالتزامنا الصمت التام وعدم الخوض في نقاش عقيم، من تجاوز رغبة بعض الأشخاص بالنطق بما اعتادوا على نطقه، مهما اختلفت المواضيع والمشاكل، وسيجدون الوسيلة المناسبة للالتفاف حول القصة وحشرها في زاوية وحيدة هي زاوية الحلال والحرام، وتناولها من منظور واحد هو منظورهم العقائدي، وبذلك فقط سيربحون "السيريه"، وستسمع منهم الستة أربع مرات في كل جملة.
اقرأ/ي أيضًا: