تميزت السينما السورية خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي باشتغالها على مواضيع تميزت برمزيتها السياسية محليًا، والصراع العربي مع الحقبة الاستعمارية، وصراع الريف مع المدينة، أو حتى أبناء المدينة أنفسهم مع المدينة، حملت جميعها إنتاج المؤسسة العامة للسينما السورية التي تأسست عام 1963، وكانت المسيطر الوحيد على مفاصل الإنتاج السينمائي السوري، حيثُ لم يكن مسموحًا إنتاج الأفلام للقطاع الخاص حتى بدايات الألفية الثالثة.

وعلى الرغم من تقليص المؤسسة العامة للسينما الإنتاج السينمائي بشكل كبير، إلا أن الأفلام التي كانت تنتجها شكلت علامة فارقة في تاريخ السينما السورية، ربما لأن معظم السينمائيين السوريين كانوا من خريجي المعهد العالي للسينما في موسكو، في هذا التقرير نسرد سريعًا قائمة لخمسة أفلام، لا نقول إنها من أفضل الأفلام السورية، بل نقول إنها من أهم الأفلام التي شكلت معالم السينما السورية خلال تلك الفترة، وجميعها مصنفة ضمن قائمة أفضل مائة فيلم عربي باستثناء فيلم الفهد.


1- الفهد.. وطن رايته ممزقة

عند الحديث عن الأفلام التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما السورية لا يمكننا تجاهل فيلم الفهد الذي اقتبس عن رواية تحمل العنوان عينه للروائي السوري حيدر حيدر من إخراج الراحل نبيل المالح (1936 – 2016)، يلخص المشهد الأول من الفيلم ما أراد المالح إيصاله للمتفرج من صراع الريفيين مع القهر، الوجع، النظام الإقطاعي، وأخيرًا الثورة على الظلم، يقول أديب قدورة الذي لعب دور البطولة في الفهد في افتتاحية الشريط: "دعهم يأخذون الدفء والمعاطف، جسدك والطمأنينة، وفي الليل تحوّل حلمًا.. رؤيا.. صوتًا.. صدى.. ثورة؛ واسكن في الريح، أخفقْ من الشرق والغرب، والشمال والجنوب طالعًا من جسد الأرض، عابرًا في الصنوبر مارًا فوق جراح البشر، ثم اختمِ الرقصة الأخيرة واسقطْ في حفرتك الضيقة ولا تتأوه، ولادتك تاريخ الدم، وموتك وطن رايته ممزقة".

الفيلم الذي يصنف من أهم الأفلام السينمائية السوري بالمقارنة مع الحقبة الزمنية التي أنتج فيها، يحكي قصة فلاح يقوم بالتمرد على النظام الإقطاعي الذي وجده امتدادًا للمرحلة الاستعمارية، يقوده تمرده للصدام مع قوات الأمن (الدرك) ما يعرضه للحبس والتعذيب والإهانة النفسية والجسدية، فيما يبدو صورًة مصغرة عن المجتمع الريفي في فترة زمنية كانت سوريا لا تزال تعيش تحت وطأ الانقلابات العسكرية، يقرّر الفهد عندما يخرج من الحبس أن يبدأ ثورة فردية على الدرك والنظام الإقطاعي، ويقوم الفلاحون بالتعاطف معه لتصبح ثورته جماعية بعد أن يقرر الفلاحون الانضمام لثورته.

 

2-نجوم النهار.. الفيلم الذي منعه حافظ الأسد

مثّل فيلم نجوم النهار من تأليف وإخراج أسامة محمد سابقًة في تاريخ السينما السورية لمجموعة من الأسباب جاءت في أطر مختلفة، فهو أول فيلم سوري ناطق باللهجة العلوية أنتج عام 1988 ضمن فترة زمنية كان حافظ الأسد (1930 – 2000) يعمل فيها على توطيد قبضته الأمنية والسلطوية في سوريا، لكن الأهم من ذلك أن الفيلم الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما قد منع عرضه في دور السينما السورية بأمر من الأسد نفسه، رغم تمثيله لسوريا في المهرجانات السينمائية، ويقال إن الأسد ضحك كثيرًا بعد أن انتهى من مشاهدته في عرض خاص داخل القصر الجمهوري.

قدّم محمد في نجوم النهار صورة مصغرة عن المجتمع الريفي للطائفة العلوية التي ينحدر الأسد منها، عبر قصة عائلتين ريفتين يتفقان على ما يعرف محليًا بـ"زواج المبادلة"، تقوم إحدى العروسين بالهروب أثناء حفل الزفاف، تشعر العروس الثانية بالإهانة من الموقف فترفض الزواج من شقيق العروس الهاربة، لتتداخل بعضها خيوط الفيلم من خلال ترميزات سياسية تحمل في مضمونها نقدًا للنظام السياسي والاجتماعي، وتسلط الضوء بحبكة سينمائية على علاقة النظام مع الريف الساحلي، والواقع الاقتصادي المتردي الذي كان يعاني المجتمع العلوي خلال تلك الحقبة.

 

3-رسائل شفهية .. عفوية المجتمع الريفي الساحلي

كان عبد اللطيف عبد الحميد لا يزال يحمل فيلمًا يتيمًا في رصيده عندما أنجز عام 1991 رسائل شفهية الذي يصنّف كواحد من أهم الأفلام السورية التي تتحدّث عن المجتمع الريفي الساحلي أيضًا، وعلى عكس نجوم النهار فإن الفيلم سمح عرضه لمدة عام كامل في دور السينما السورية، وكان صاحب قمران وزيتونة حاضرًا كممثل في نجوم النهار، أما سبب عدم منع رسائل شفهية فيرجع لقصته التي اشتغلها عبد الحميد نفسه بحميمية عاطفية مبتعدًا عن الترميزات السياسية المباشرة.

في رسائل شفهية يصور عبد الحميد حياة غير مرئية في مجتمع ريفي بسيط يصارع من أجل البقاء بعد قرار الحكومة السورية مصادرة بعض الأراضي الزراعية لإنشاء سكة حديدية عبرها، هذا الصراع الذي لا يثني أحد الشبان عن إرسال رسائل عبر صديقه لفتاة يحبها، لكنه يخشى مصارحتها وجهًا لوجه بسبب أنفه الكبير لتقع الفتاة بحب صديقه، بين الصراع من أجل البقاء والصراع العاطفي يرسم عبد الحميد صورًة عن هذا المجتمع الذي يتجاهل صعوبات الحياة من خلاله بساطته الريفية، الأداء المميز للفنانين الذي شاركوا في الفيلم، مع الصبغة العاطفية والبساطة جعلت من رسائل شفهية واحدًا من أهم الأفلام التي أنتجتها سوريا خلال فترة التسعينيات.

 

4-الليل.. حكاية عن جيل الهزيمة

بعد ثمانية أعوام على تقديم السينمائي السوري محمد ملص لفيلم أحلام المدينة الذي يتحدث عن فترة الانقلابات العسكرية التي شهدتها سوريا منتصف القرن الماضي، عاد مرًة ثانية ليقدم عام 1992 فيلم الليل الذي كتب نصه بالاشتراك مع أسامة محمد، راجعًا بالتاريخ لثلاثينيات القرن الماضي عندما كان السوريون يسافرون إلى فلسطين للمشاركة بالثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الإنجليزي من خلال ذاكرته البصرية التي حفظها من مدينته القنيطرة التي كانت محطة أخيرة للثوار السوريين قبل توجههم إلى فلسطين، حيث يرسم ملامح لجيل هزيمة الـ67 بالعودة للبدايات.

في الليل، يغوص ملص بالنبش في ذاكرة جيل الهزيمة على صوت صباح الجزائري وطفلها اللذان يتبادلان رواية قصة الزوج/الأب الذي كان من بين الثوار السوريين العائدين من فلسطين، ليصطدم بواقع قاسٍ عند عودته، يقارب فيها ملص الحكاية بحبكة سينمائية تختصر الهم العربي/السوري الذي وقع تحت سلطوية الانقلابات العسكرية بعد تحرره من الحقبة الاستعمارية، ليعكس الواقع السياسي/الاجتماعي في مرحلة شهدت توطيد حكم العسكر، والاعتقالات السياسية والتدخل بحياة العامة، هكذا يسرد بحبكته السينمائية تاريخًا روائيًا يوثق لحقبة مهمة من التاريخ السياسي العربي لا السوري فقط.

 

5-الكومبارس

بعيدًا عن النبش بالتاريخ السياسي أو العلاقة الجدلية بين الريف والسلطة السياسية التي جئنا على ذكرها في الأفلام السابقة، نعود لشيخ السينما السورية نبيل المالح بفيلم الكومبارس الذي كتب نصه وأخرجه عام 1993، مُقدمًا صورًة عن المجتمع الدمشقي هذه المرة بصبغة عاطفية توثق مرحلة اجتماعية كان يعيشها جيل كامل من الشباب، وتعكس واقعًا اجتماعيًا هشًا كانوا يكافحون من أجل العيش، الحب، ومقاومة العادات والتقاليد، والأهم من ذلك الواقع الاجتماعي الذي كانت تعيشه النساء ضمن بيئة تقليدية ملتزمة بالمواريث الاجتماعية.

يروي المالح في فيلمه ما قبل الأخير قصة شاب في بداية الثلاثينيات يعيش مع عائلته في منزل واحد، يعمل في محطة للبنزين وفي بعض الأحيان يؤدي دور كومبارس في المسرحيات الذي يداوي فيه أحلامه بأن يصبح نجمًا مشهورًا، يلجأ لصديقه من أجل استعارت منزله للاختلاء مع حبيبته الأرملة لمدة ساعتين، لكن هذه الخلوة يشوبها الكثير من التعقيدات بسبب الوافدين إلى المنزل لأسباب مختلفة فتجعلها لا تكتمل، لكن الفيلم الذي يحمل حكاية من الحكايا المتوارية خلف الأبنية الدمشقية لم يكن مميزًا بقصته أو طريقة إخراجه بل يشمل ذلك أداء سمر سامي وبسام كوسا اللذين لعبا دور البطولة ليكون واحدًا من  أهم الأفلام السورية خلال فترة التسعينيات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نهاد علاء الدين.. بطلة الإغراء السورية التي نسيتها الأضواء

الحنين إلى سينما القاع في دمشق