مات جدّي وهو يكرّر نصيحته لي "إيّاك من الدولة يا ولدي، الدولة حبلها طويل يا ولدي"، بدا لي أنّه يكرّر هذه الجملة كتعويذة سحريّة، أما أنا فكنتُ غالبا ما أردّد بيني وبين نفسي بينما أقرفص إلى جانبه أمام باب منزلنا بحيّ البِركة : "تُرى أيّ الحيوانات الأسطوريّة المفترسة هي الدّولة ؟"، نغرقُ في صمتنا بينما أحاول تلمُّس حكاية واحدة من تاريخه المجهول تماما كبحر لم يسبر أغواره أحد، تلمعُ أحيانا صلعتُه كصخرة مصقولة تحت شمس خريفية قويّة، تستحوذ على كلّ انتباهي قبل أن يعيد تعديل عمامته، أعرفُ أنّه اقتيد قسرًا إلى الجبهات الأماميّة في الحرب العالميّة الثانيّة ليدافع عن الدولة الفرنسيّة ضدّ غريمتها الألمانيّة، وأنّه وقع في الأسر وأرسل إلى ألمانيا حيثُ عذّب على الأرجح وأحرق شعر رأسه وأقام أسابيع طويلة في محتشدات الأسرى.

كان لجدّي قدرة خياليّة على الصمت، فقد كان يمضي معنا ساعات طويلة دون أن يتفوّه فيها بكلمة واحدة، يقضي معظم وقته في تنظيم أوراقه الإداريّة بشكل هستيري وإعادة تنظيمها وتغليفها، كانت طبقات الشريط اللّاصق تتكدّس فوق بعضها، حتّى تصير الورقة الواحدة أو البطاقة بسمك العشرة أو العشرين، ثمّ يعيد ترتيبها، هذه وصولات الغاز والكهرباء، وهذه أوراق عمله كحارس لمقبرة النصارى، وتلك أوراقه كجنديّ في الجيش الفرنسي، أظنّه كان يتمتم بأنّ لا ثقة في الدولة. 

كان يبدأ يومه بالاستماع إلى نشرة الأخبار من إذاعة ميدي آن سات، وينهيه بنشرة الثامنة من التلفزيون الوطني، وبينهما تتمدّد ساعات الصمت اللانهائية تكسرها أحيانا نوبات ربو. كان بعض أصدقائي يعتقدون أنّه أبكم، أمّا أنا فأظنّ أنّه ينتمي إلى ذلك الجيل من المحاربين والسياسيين في الجزائر الذين آثروا دفن حكاياتهم معهم، فضلوا الصمت وساهموا في صناعة الظلام.

عندما كنتُ أحصلُ وأنا صغير على بضعة دنانير، لم أكن أفكّر في شراء الحلوى أو اللُّعب، لم أفكّر حتى في الذهاب إلى أحد محلّات الألعاب الإلكترونيّة التي انتشرت في ذلك الوقت كي أتصارع مع وحوش افتراضيّة، بل كنتُ أتشجّم عناء الخروج من "البركة" والتنقُّل إلى وسط المدينة كي أشتري يوميّة "العالم السياسي"، كان قد أُلحق منذ زمن طويل كل ما يرتبط بالسياسة بقائمة طويلة من الممنوعات، لذا كنتُ أطوي الجريدة جيدًا وأدسّها سريعًا أسفل بطني داخل سروالي، أضعُ يديّ في جيبيّ وأضغط بقوّة، كي لا أتبوّل من شدّة الخوف، أعود حاثًا الخطى إلى البيت قبل حلول الظلام، فالظلام حسب جدّتي يحلّ سريعًا كلما ابتعدنا عن الديار، أصعدُ إلى سطح الدّار.

أعتلي قمّة الخوف، وأبدأ في تقليب المفردات والجمل علّي أجد ما يشرح لي أكثر هذا العالم السياسي، أقرأ في آخر صفحة جملة للفيلسوف الألماني "من بين كلّ الوحوش الباردة، الدّولة هي أبردها"، أتساءل إن كان جدّي ونيتشه يتحدّثان عن الشيء نفسه! عندما أنهي القراءة لا أجدُ أنّ شيئًا قد أضيف لاكتشافي الأوّل، السياسة كالسّحر، مجرّد طلاسم وألغاز لا يعرفُ فكّها وتوظيفها إلا السّحرة بينما تقع لعناتها على الباقين، أطوي الجريدة مجدّدًا وأنزلُ لأقرفص بجانب جدّي أمام باب منزلنا، كدتُ أن أصارحه في ذلك المساء باعتقادي أنّ كلّ الموت والخوف الذي تغرق فيه الجزائر هو بسبب السياسة، وأنّ العالم السياسي هو بيتُ ذلك الوحش الذي حذّرني منه، غير أنّي أحجمت بعدما تصورته ينهرني: "أتتكلّم في السياسة؟ ألم أحذّرك، ألا تعرف أنّ الكلام في السياسة هو استحضار للوحش؟!". 

في المدرسة، كان معلم الابتدائي يحاول بشيء من الحماس ومن اليأس في آن، أن يشرح لنا معنى الشخص المعنوي الذي تمثّلهُ الدّولة، لكن دون فائدة فقد أصاب العُسرُ الحلمَ والعيش والفهم، أمّا الطفل الذي كنتُهُ فقد كان يحاول ربط كلام معلّمه بكلام جدّه، نعم الدولة هي شخص، يمكن أن يمرض ويموت، يمكنهُ أنْ يُجنّ ويمكنه أيضًا أن يتحوّلَ إلى وحش يلتهمُ أحلام الناس وحريّاتهم وأولادهم. في طريق عودتي من المدرسة كان رأسي يلوك أفكاري ويكرّرها ككتلة لُبان لا تنتهي، عندما وصلتُ إلى المنزل وجدتُ أنّ جدّتي قد استهلكتْ كلّ "العالم السياسي" في مسح زجاج البيت، كانت المرّة الوحيدة التي يضفي فيها العالم السياسي صفاءً على شيء ما.

أمّا الحرب الأهليّة في الجزائر سنوات التسعينيات فقد كدّرت كلّ شيء، التهمت الجزء الواعي من طفولتي و سلخت كل فترة مراهقتي، كان الفقراء يتكدّسون في حيّ البركة في منظر عام أقرب إلى مقبرة سيارات معطوبة منه إلى حيّ سكني، أمّا ضيق العيش وضيق الشوارع والمسافات بين البيوت وبين الأفراد فقد كان يشعرنا ببعض الدفء، درعٌ بشريٌ ضدّ الخوف والموت، كنّا كدارات كهربائية مغلقة تسري فيها أخبار الموت والقتل والاختطاف والحواجز المزيّفة بسرعة قياسيّة، من أفواه لا تجيد إلا الهمس إلى آذان درّبها الخوف كي تسمعَ أقلّ من الهمس، تحوّلنا إلى كائنات بسيطة جدًا، كجرذان ربّما، حاستها الأكثر تطورًا هي السمع وبرنامجها الوحيد هو البقاء على قيد الحياة، أو الحلم بالحياة. 

سُلبتْ منّا أعمارنا وحريّتنا في التنقل والحلم وحقنا في الضحك والمغامرة والصراخ، نغرق كل لحظة في الخوف، ينمو داخلنا حتّى يستحيل موت يخطفنا فجأة، هكذا أيضًا راكمت عددًا لا نهائيًا من المخاوف، الخوف من الغرق، الخوف من الموت، من الكلام، من الاختلاف والتميّز، الخوف من العتمات والظلام، لقد أدركتُ مبكّرا أنّنا نُقمع ونموت بسهولة في العتمات، حيث تستحيل الرؤية والتمييز، وعندما لا نرى من يقتلنا نموت ألف مرّة، وقد كانت هذه هي الصناعة الوحيدة التي نجح فيها نظامنا السياسي الفاشل، قَتْلَنا آلاف المرات بصُنع العتمات وتكثيفها، بانتهاج الصمت وتشجيعه، إطلاق الإشاعات والصمت عنها، بالمنع والرقابة، وتشجيع الأساطير، هل لاحظتَ يا جدّي مثلًا أنّ الحرب الأهليّة التي تسببت فيها أخطاء السياسيين والعسكر قد استحالت في القوانين الرسميّة وفي خطابات المسؤولين إلى "عشريّة سوداء"، لكنّي صرتُ أعرف بعد شروحات معلم الابتدائي المستفيضة أنّ الأسود لا يعني إلا غياب الألوان، غياب الضوء، إنّهُ مجرّد خدعة بصريّة، لا يمكننا فيها أنْ نُميّزَ لون الجلاّد من لون الضحيّة، إنّ الظلمة والعمى ضرورية جدًا بالنسبة لهذا النظام الذي: "يخاف من الوضوح كعصافير الظلام التي لا تستطيع الطيران إلا في العتمة"، كما كتب محمد بوضياف.

ما زال صوت جدّي يرنّ في أذني كجرس وهو يحذّرني من "الدّولة"، بينما أقرفص أمام باب منزلنا، في حيّ "البركة"، تحتَ شمس خريفيّة قويّة، كأنّ الحياة مشهد واحد لم يتغيّر، أسمعُ أحيانًا بعض النقاشات تفتح وتغلق سريعًا: من يحكم الجزائر؟ من قتل كريم بلقاسم ومحمد خيضر؟ من يقتل من؟ من هو "ربّ الدزاير"؟ من؟ لا تنتهي النقاشات إلا كما بدأت ويظل الفاعل مضمرًا كشبح، أريد أحيانًا أن ألتفتَ إلى جدّي وأحدّثه أنا أيضًا عن العالم السياسي وعن الظلام بيت الوحش، وعن حُلمي بالثورة ضدّ الظلام، لا بدّ وأنّكَ تعرف أيضا يا جدّي أنّنا لن نجد إلا ما نبحث عنه ولن نبحث إلا على ما نعرف، إلا أنّ الشعب هنا لا يعرف من يحكمه حقًا، فلا أحد في السلطة السياسية يجسّدُ صورة المستبد بشكل دائم وواضح وكلّي، هناك تبادل مستمر للأدوار، النظام هنا كبعض الشخصيات في أفلام الرعب لا تملك وجها لكنّها ترى وتسمع و... 

ألا تظنّ ذلك يا جدّي العزيز ؟

لا يجيبني جدّي، تعوّدتُ على صمته، يبتسم، يعدّل لحاف رأسه، يزمّ شفتيه ويطلقُ نفسًا عميقًا وطويلًا وهو ينظر إلى الفراغ.

في ذلك الصباح، أردتُ أن أقول له بأنّي فكّرتُ طويلًا في تحذيراته لي، وأنّي أعتقد أنّ كلّ ذلك التوجس والحذر يرجع إلى غربة الكثير منّا عن فكرة الدّولة الحديثة لأنها اختراع لأقليّة منّا فقط، فالنخب السياسيّة والعسكريّة التي كانت تمثّل هذه الأقليّة لم تُشركنا، لم تشرك الشعب في بناء الدولة ولا في اختيار شكلها الذي يناسبه، وأنّ السياسة الوحيدة التي اتبعوها هي سياسة تغريب الشعب عن السياسة، وتخويفهم منها وإقصائهم من المشاركة في صناعة مستقبلهم وفي تسيير شؤون حياتهم حتّى تلك البسيطة منها، لقد بات الكثيرون مقتنعون بأنّ الدّولة مجرّد سجن كبير، يجب أنْ نحاول باستمرار الهروب منه. 

نسيت أن أقرأ لك يا جدّي ما كُتب في "العالم السياسي"، فبالأمس قضى الآلاف غرقًا في المتوسّط في محاولة فرار من هذه السجون الكبيرة المُظلمة بالكذب والإشاعات وتكميم الأفواه، نسيتُ أيضا أنْ أقرأ لك حكمة البارحة في الصفحة الأخيرة من آخر عدد من "العالم السياسي" قبل أن يُمنع من الصدور، "يمكننا أن نسامح بسهولة الطفل الذي يخاف من الظلام، أمّا مأساة الحياة الحقيقية فهي عندما يخشى الرجال الضوء".

جدّي، متى يكبر الأطفال يا جدّي، الأطفال الذين يحبّون الضوء ويبدّدون الظُلمات؟

لا يجيب جدّي، ليسَ لأنّه صموت كعادته، بل لأنّهُ أفرغَ كلّ ما في صدره، من هواء... ومات، كبحر مظلم لم يسبر أغواره أحد.

اقرأ/ي أيضًا:

بينما تستمر القطة البيضاء في تنظيف نفسها

كأنكَّ قادمٌ من جنوبِ الردّ