12-نوفمبر-2015

عبد الرؤوف العجوري/ فلسطين

صغيرًا ذا ثلاثَ عشْرةَ سنة كنت وأصدقائي الصّغار نخيط كيسين كبيرين من القنّب على بعضهما البعض، ونصنع منهما شبكة كبيرة نحملها معنا لنصطاد بها من نهر الرّد القريب من تل براك الأثري، على بُعد كيلومترات قليلة حيث غاضَتْ مياه النّهر وصار السّمك أقرب ما يكون للعشاء اللذيذ.

هناك كنت وعمّار وسامي وبعض الأصدقاء نقلّد كارتون رامي الصّيّاد الصّغير، بشبكة لا بصنّارة، نخوض ماء النّهر نسحب ُالشّبكة الافتراضيّة ثمّ نقتسم في آخر المطاف الصّيد الوفير. كنتُ طفلًا صغيرًا فرِحًا لفرحِ أبي الذي كان يحبُّ السّمك كثيرًا، ومتيقّنًا أنّه سيعتزُّ بي وبما غنمتُهُ من النَّهر. كان هذا قبل أن يصبح السّوريّون طعامًا لأسماك المتوسّط. 

وكبرتُ.. كبرت كثيرًا، وتخرّجت في جامعة حلب وعُيّنتُ مدرّسًا في ثانويّة اليرموك "جزعة"، في أقصى الشّمال الشّرقي، قرب جبل سنجار، على حدود العراق تمامًا، قلتُ لمدير مكتب الثّانوي في محافظة الحسكة: لو عيّنتموني في مدينة الموصل العراقيّة لكان أفضل.. لكنّه صمت مُدركًا أنّني صيدٌ ثمين، ولن أعترض على ترف توظيفي في جمهوريّة الواسطات والرّشى هكذا من دون أن أرشي أحدًا.. جزعة التي ينفر ُمن التّدريس فيها غالبيّة المدرّسين؛ لبعدها عن المدن.. كنت أقطع مسافة ستة وسبعين كيلومترًا ذهابًا ومثلها إيابًا في الصّباح، نحتاج ساعتين لجمع المدرّسين والوصول إلى المدرسة في الثّامنة صباحًا، ويستقبلنا مدير المدرسة على الباب ناظرًا إلى ساعته مبديًا عدم الرّضا قائلًا: تأخّرتم خمس دقائق سنجهّز الغداء.. هناك لم آبه لشيء.. أمرّ سريعًا أحضر الطّباشير معي من القامشلي كيلا أضيّع دقيقتين في البحث عن طبشور ملوّن.. فرحًا بالأسماك التي تنتظرني في الصّف المدرسيّ كي أصطاد انتباهها وأملأ سلّتي بالجيل الذي سيكون له شأنٌ ذاتَ يوم. 

السّيّد بدران الرّجل الطّيب آذن ُالمدرسة كان كلّ شيء بالنّسبة لي في المدرسة، أراه في الفُرَص وحصص الفراغ كي نشرب الشّاي سويًّا. قبضَه الله قبل سنتين في سوريا ووقاه شرّ الفتنة. لم أستطع وقتها أن أعزّي به فقد انقلب المكانُ رأسًا على عقِب، وكَثُرت الكتائبُ المسلّحة هناك حسب المزاعم، قبل أن يفقد النّظام تلك المنطقة بيوم واحد حصلت ْمشادّة كلاميّة بين المدرّسين القادمين من السّاحل والمحلّيّين حول سيادة مدمّر البلد، والولاء له وكان أحد الشّبّيحةِ قد أحضرَ رسّامًا فرسمَ وجهَ "القائد" على الجدار. 

حين طلبوا رأيي فيما قالوا قلتُ: سأدفع فيما بعد خمسمائة ليرة سوريّة ثمن علبة الدّهان الذي سيزيل هذا الوجه عن الجدار. وحدث هذا بعد يومٍ واحدٍ فقط، حيث انسحبت عناصر النّظام من النّاحية وتوالت الأحداث. في القامشلي، كانوا يقولون للشّخص المُتْعَب وغير المهتمّ بملابسه كأنّك قادمٌ من جنوب الرّد. بعد سنة واحدة استطاع أهالي جنوب الرّد أن يصمدوا أمام حشد كبير من المقاتلين الذين جاؤوا مساندين للنّظام محاولين استعادة تلك المنطقة وقتلوا منهم الكثير واضطرّوهم إلى الانسحاب. 

ولكنّهم ما لبثوا أن عادوا لينتقموا للدّماء وتدمير وتجريف الكثير من القرى هناك. جزعة كانت واحدة من تلك القرى الكبيرة نالها ما نالها من الخراب تهدّمت البيوت التي بناها أهلها من طين أرواحهم وانعدمت الحياة هناك. كان السّرفيس يسير بين القرى في الطّريق الأفعوانيّ بين حقول القمح في الشّتاء ليوصلنا إلى هناك. كان دخان التّنانير يتصاعد في الصّباح مع رائحة الخبز الرّيفيّ. كان هذا قبل أن يصبح الوطنُ تنّورًا كبيرًا يخبز الفقراء والمساكين. 

نعم ها أنا أقولها مرّة ثانية: كأنّك قادمٌ من جنوب الرّد أيها الموت أشعث أغبر. تغيّرت قناعاتي كثيرًا فالكثير من الأبطال والشّعراء والمفكّرين خرجوا من الرّيف في كلّ مكان من هذا العالم الآثم. قلت ذات مرّة: اكتشفنا خلاف ما كنّا نظنُّ أن ّالرّجولة والشّجاعة والكرم والغيرة قيمٌ هي التي كان يجب أن نصف بها الشّخص القادم من ذلك المكان.

جزعة الآن ناحية أو قرية كبيرة مثلها مثل الكثير من القرى التي حاولوا أن يمسحوا معالمها، لأغراض لا تخفى على القاصي والدّاني، هناك محاولات مستمرّة من النّظام ومن يواليه لبثّ الفتنة والفرقة وريح الشّقاق بين الأهل، حينَ كنتُ صغيرًا لم أكن أعرف كيف أصطاد الكلام الذي أصف فيه تلك الحقبة.. الآن من واجبي أن أفعل.

اقرأ/ي أيضًا:

أمتعة الحرب

6000 $