أفكّر أحيانًا بالتلفاز باعتباره جزءًا من زمن جميل ضائع. كانت الجدّة تفترش الأرض دومًا، تجلس على "فرشة" وأمامها التلفاز. بصراحة، لا أذكر حتّى أنّ أحدًا من أبنائها فكّر بإحضار كنبات وتغيير طريقة جلوسها. ربّما لأنّ الغرفة كانت مكان مبيتها أيضًا، وهي أصغر من أن تحقّق غرض الجلوس والنوم معًا.

يحظى التلفاز في العالم العربي بحضور لم يسرقه الإنترنت بعد رغم تراجع نسب المشاهدة

على أيّة حال، كان معروفًا عن جدّتي أنّها متابعة نهمة للتلفاز. لا يفوتها أي مسلسل يعرض على الشاشة. أدركتها من قبل ثورة الـ"ستالايت" ومن بعدها، وأذكر تمامًا تسمّرها ذاك أمام الجهاز، وتسمّرنا معها حين نزورها فترتي العصر والعشاء. جدّتي ماتت، ومات معها على ما يبدو تلفازها "الساحر".

صحيحٌ أنّنا لم نكن نتكلّم أثناء مشاهدة التلفاز إلا قليلًا، ولكنّا نشعر أنّ التلفاز كان حلقة وصل بين أفراد الأسرة. رابطة تجمعنا نوعًا ما. تلك الصورة التي يحملها الكثير منّا من جيل الألفيّة عن البيت والتجمّع حول التلفاز وانتظار موعد مسلسل أو عرضٍ من العروض.

اقرأ/ي أيضًا: التلفزة التونسية وانسحابات على الهواء

أتخيّل أنّ التلفاز في الماضي كان يجعلنا ندخل في حالة شعوريّة شبه موحدّة، من ضحك أو حزن أو خوف أو ترقّب أثناء متابعة ما يعرض عليه، وكأنّ هذا هو السرّ الذي كان مختبئًا في ظهره طيلة تلك الأوقات. فهل ضاع زمن التلفاز حقّا؟ ما الذي يفعله الناس بأكثر من 100 مسلسل تعرض خلال العام في العالم العربي؟ قنوات الأفلام والبرامج الترفيهية التي صارت تفوق العدّ؟ وماذا عن برامج المواهب والمسابقات والمقالب؟ هل نحن حقّا نرتقب موت التلفاز كما توقّع عديدون قبل خمس سنوات؟.

الجواب قطعًا هو لا، أو ليس بعد على الأقلّ. لقد انخفضت نسب المشاهدة في فترة من الفترات، في العالم العربي وأنحاء أخرى من العالم، واختلفت أنماط المشاهدة، خاصّة مع ظهور خدمة التلفزيون المدفوع لبعض القنوات، وخدمة البث المدفوع، التي وصلت مؤخرًا إلى المنطقة العربيّة مثل "نيتفليكس".

لكنّ الظاهر للجميع هو أنّ ما يُعرض على التلفاز من محتوى عربيّ وعالميّ ضخمٌ جدًّا إلى حدّ جارفٍ أو بالأحرى محيّر، وهذا الفائض في رأي كثيرين من المتابعين ممّن تحدث موقع "ألترا صوت" إليهم، ينعكس على جودة المعروض وجدّته، فلا إبداع حقيقيّ في العمل التلفزيونيّ عمومًا في العالم العربيّ، وليس هناك سوى تقليد لما يعرض في القنوات الأجنبيّة من برنامج وسيناريوهات مستهلكة أو حتّى مسروقة من مسلسلات وأفلام أجنبيّة عالميّة، كما كانت الحال في مسلسل "العرّاب: نادي الشرق"، الذي لم يكن سوى تقليد عجيب للفيلم الخالد لفرانسيس كوبولا ولم أستطع، على الأقل بشكل شخصي، أن أتابع منه سوى بعض الحلقات.

التلفاز كان يجمع العائلة العربية ويربطها ببعضها في جلسات متابعة للبرامج أو المسلسلات

وبعيدًا عن التنبّؤات بموت التلفاز من عدمه (من حقًّا يصدّق أي تنبّؤات بعد فوز ترامب؟) فإنّ واقعنا اليوميّ يشير إلى استمرار وجود التلفاز في المنزل ولكن ربّما مع تحوّل في قدرته على لمّ شمل العائلة كما كان الحال في الماضي.

عمر سلمان، طالب في الجامعة الأردنيّة (21 عامًا)، يقول: "أنا لا أجلس مع عائلتي أمام التلفاز أبدًا. أشاهد أفلامي في غرفتي على اللابتوب، وأتصفح الفيسبوك. ربّما نجلس مرّة في الأسبوع على برنامج "أرابز غات تالنت" فقط".

لا أدري إلى أيّ حد ينتشر هذا النمط في العالم العربي، ولكنّ معظم من تحدثّنا إليهم من الشباب أشاروا إلى أنّ التلفاز لم يعد سببًا لاجتماع العائلة كما كان الأمر في الماضي. يقول أحمد عامر، من الجامعة الأردنيّة أيضًا: "أنا أشاهد المسلسل الأجنبيّ دفعة واحدة في خمسة أيام أو أسبوع واحد، ولكن لو شاهدته مع أمّي على التلفزيون سأشاهده خلال شهر على الأقل. لا أستطيع أن أفعل ذلك".

أمّا على مستوى العائلة، فالعديد من الآباء والأمّهات يشيرون إلى أنّ المحتوى الجيّد على التلفاز ضعيف وكثيرًا ما يكون غير ملائم للعائلة والصّغار، خاصّة في فقرة الدعايات. تقول حنين الضّامن، وهي أمّ لثلاثة: "نحن لا نستطيع ضبط وتوقّع ما نراه على التلفاز أمام الأطفال، وأنا حريصة على أن لا يتعرّض أولادي لمشاهد عنيفة أو جنسيّة غير ملائمة في هذا العمر". تخبرنا سيّدة أخرى أنّ المسلسلات في الماضي كانت هادفة ومثيرة للاهتمام، "الآن النّاس يشاهدون المسلسلات التركيّة غالبًا وهي طويلة جدًّا ومملّة، ونحن لا نشاهدها في العائلة".

فالمسلسلات هي التي كانت بالفعل تجمع الأسرة في الماضي، سواء مسلسلات الكرتون للأطفال فترة الصباح أو العصر أو مسلسل السهرة في المساء. أمّا الآن، فقد تلاشت هذه المتعة في انتظار وقتٍ معيّن لمشاهدة مسلسلٍ لا يعرض سوى على قناة واحدة أو اثنتين في موعدٍ معيّن.

اقرأ/ي أيضًا: أحوال الدراما السورية وتحولاتها.. شي فاشل!

"الطفل يستطيع مشاهدة المسلسلات طوال النهار، والليل أيضًا، وكذا المسلسلات التي يمكن أن تشاهدها على مئات القنوات، عدا عن إمكانية متابعتها على الإنترنت"، يقول فادي عمايرة، وهو أبٌ لأربعة أبناء: "أولادي لا يجتمعون معنا حول التلفزيون أبدًا. عندنا جهازان في البيت، الأولاد قليلاً ما يفتحون التلفزيون".

وتبين لـ"ألترا صوت" أن بعض الشباب والآباء يتكلّمون أحيانًا عن أحداث حلقة ما من مسلسل معيّن، ولكنّهم لا يشاهدون المسلسل معًا، فالوالدان يشاهدانه على التلفاز، والشاب أو البنت على اللابتوب أو الهاتف في مكان آخر. فالظاهر إذًا هو أنّ تنوّع وزيادة البرامج والمسلسلات والعروض، التي على التلفاز، لم تتسبّب على الأغلب سوى في انقسام أهل البيت ليشاهد كلّ واحد ما يروقه من بين المئات ممّا يعرض على التلفاز ويرفع على شبكة الإنترنت.

المفارقة هي أنّنا كنّا نسمع في الماضي الكثير من التحذيرات عن مخاطر التلفاز وأثره على العائلة، ولكن بعد تغيّر أنماط مشاهدة التلفاز وظهور الإنترنت وانشغال الناس بوسائل التواصل الاجتماعي (بمعدّل 4 إلى 5 ساعات على مستوى العالم) قد يكون من اللازم إطلاق حملات لزيادة الوعي بأهمّية التلفاز في العائلة عساه يجمع الأسرة من جديد حوله.

اقرأ/ي أيضًا:

عمارة بيتنا العتيق

أي مستقبل للطفل العربي؟