ليس غريبًا أن تكون في حالةِ استرخاءٍ على كرسي، مُغْمَضَ العينين، في شرودٍ ذهنيٍّ خفيفْ، مع موسيقىً ذاتَ إيقاعٍ هادئ، ونسمةِ هواءٍ باردةٍ تتسلّلُ من المروحةِ إلى وجهِك فتداعبُ خدّيْك، فيما البيتُ خالٍ من أنفاسِ سواكَ.. هذا ليسَ غريبًا ولا مُستهجنًا ولا خارجًا عن المألوفِ أو الواقعيّ، يحدثُ لنا جميعًا في أيِّ وقتٍ من النهارِ الطويلْ، أو حتّى في ساعاتِ الليلِ الأولى أو المُتأخِّرة، لا يمنعُهُ شيء من الحدوثِ إذا ما شاء أن يحدثْ..

أمّا أنا، فأصابني ارتباكٌ من الحدثِ السابقْ، الذي سردتُه عليكم والذي من المُمكن أن يحدث لأيٍّ منكم، فحين فتحتْ عيوني من هذا الاسترخاء اللذيذ والصافي، فتحتهما على مشهدٍ لا يُصدّقْ، واعتقدتُ للحظةٍ أنني أُصبتُ بالخبلْ، أو أن تشويشًا ما يُعكّر بصري.. مسحت عيوني جيدًا بكفيّ، وكرّرت ذلك، لا شيء يتغيّر.

لا تتعجّلوا.. وامنحوني وقتًا لأمرّر لكم ما حدث رويدًا رويدًا..

أذكر أنني قبل أسبوعين تقريبًا من وقوع هذا الحدث، قد اقتنيت لوحة الموناليزا مطبوعة على جلد مقاس 100x70 سم، في إطارٍ خشبي أنيقْ، كانت معروضة في زاويةٍ مُهملةٍ من معرضٍ في شارعٍ خلفيٍّ من المدينةِ التي أسكنُها، اشتريتُها، وذهبتُ مُتأبطًا إياها إلى البيت، واخترتُ لها مكانًا في صدرِ المضافة، وعلّقتُها، كانت مائلةً قليلًا فعدّلتُها، ثمّ جلستُ على الكنبةِ قُبالتها، وجلستُ أتأمَّلُها.. مع دخول أمي علينا، فقاطعت حديث عيوننا، بملاحظتِها، ناظرةً إليّ، مشيرةً إلى الموناليزا، قائلة إنها لا تُحبُّ الموناليزا، وتخافُها.. وقتها حدّثتُ نفسي أنَّ الموناليزا لا تبعثُ على الخوف، وإنّما على الحيرة، التي يُشكّلُها حيادها المُفرط، الجامع لتناقضاتِ انفعالاتها، ونظرتها التي تلاحقُك في أي زاوية كنتْ، وتشعر معها أنّها لا تنظر لسواك.. ومرّت الأيام، وتشكّلتْ علاقة صامتة بيننا..

المُهم، أطلتْ عليكم..

آه، حينَ فتّحتُ عيوني تفاجأتُ بغياب الموناليزا وخروجها من اللوحة، إذ إنَّ الإطارَ الخشبيّ خالٍ إلا من امتدادٍ أخضرَ، ومكانها أسود لامع، لا يُعقل أن شيطانًا ذكيًا استثمر لحظات غفوتي في استرخائي وقام بتلوينها بهذا الأسود المُرعبْ، وبهذه الدّقة. هكذا بدأت أفكر: لا يوجد أحد سواي في البيت وأذكر أنني أغلقتُ باب البيت عندما دخلتْ، ثمّة هوس يحدثْ، أين تأخذني أفكاري، عيناي لا تتحرّكان عن اللوحة!! رججت رأسي كعلبة مانجو، غرزتُ أصابعي في شَعري وشددتُه بقوّةٍ، حاولت أن أُعيد فتح عينيّ، ثقيلتان، وثمّة تصوراتٌ تعتملُ في عقلي تُؤجّل أمر فتحهما.. أخيرًا عليَّ أن أهدأ.. عليّ أن أهدأ.. عليّ أن أهدأ!! أخذت نفسًا عميقًا.. رميت رأسي على الكنبة، مددتُ قدميَّ وسمعتُ طقطقة لهما، وسحبتهما إليّ مرّة أُخرى.. أخيرًا فتحت عيوني.. لا شيء قد تغيّر!

أنا لستُ في حلمٍ.. مستيقظ تمامًا واللوحة قد غادرتها الموناليزا.. لماذا أُسمّي المرأة التي في لوحة الموناليزا للفنان ليوناردو دا فينشي بـ "الموناليزا"، هل حقًّا هذا هو اسمُها؟ وهل هي عذراء، عاشقة أم أنّها مُتزوِّجة؟ وإذا كانت مُتزوِّجة! كم لديها من الأبناء والبنات؟ لماذا هذه الأسئلة الآن!! هل لأنّها علاقة صامتة تلك التي بيننا؟ ولماذا لم أسألها طوال الوقت التي قضيناه معًا في صمتٍ؟ أم أن لعينيها سحرهما الذي يدفع إلى ابتلاع الكلام في صمتِ الوقت المسروق من زمن يمرُّ كبرق!

أين ذهبت هذا المرأة الموناليزا؟

شعرتُ بعطشٍ، قمتُ ذاهبًا إلى المطبخ، لأشرب طبعًا.

كانت هناك المُباغتة!

من هذا الذي يكتبُ يومي بهذه السريالية المُدوِّخة؟

أذكر أنني خرجتُ من هذه المتاهة منذ زمن، ولم أرغب في العودة إليها.. حتّى أنني تنازلت للهباء عن مجموعةٍ شعريةٍ كاملةٍ، قمتُ بحذفها بدعسةِ زر عن جهاز الكمبيوتر، لأني شعرتُ بأرق ليالٍ طويلة، تعرّقتُ فيها حتّى كَوَّنَ عرقي بحيرة صغيرة في غرفتي التي كَبُرتْ فيها ذكريات من مخاضاتٍ وولاداتٍ وميْتاتٍ لنصوص كثيرة!

آه من المُباغتة!

آه!! المباغتة..

إنها الموناليزا! تقفُ تحضّرُ كسيدةِ بيتٍ الطعامَ في مطبخ البيت، لا تستعجبوا.. رأيتُها تُقطّع البندورة، الخيار، البطاطا، البصل.. إلخْ، تسمّرتُ مكاني على باب المطبخْ، أدارت نحوي وجهها وابتسمت لي ابتسامة صافية لا حزن فيها ولا حياد، وعادت تقطّع بالسكين التي في يدها لحمًا أذكر أنّه كان في الثلاجة، تُقطّعه باحترافٍ.. ذهب تفكيري إلى اللحم الذي بالضرورة متجمّد كونه في المُثلّج، ويحتاج وقت كي يذوب ثلجه ويتفكّك، منذ متى صارت الموناليزا في المطبخ؟

نعم! ربّما سؤالي السابق ساذج إلى حدٍّ بعيد! والأجدر أن أسأل كيف لها تلك التي من خطوط وألوان مطبوعة على جلد أن تتحوّل إلى روح ولحم وحركة ونظرة وابتسامة؟

تعرّقتُ وعُدت بخطواتي إلى المضافة واسترخيتُ على الكنبة، وغفوتُ.. رأيت في غفوتي أن كل هذا حلم وأنني استيقظت منه!

شعرتُ بيدٍ تلمسُ جبيني، أحسستُ بأصابعَ تمرُّ على شَعري.. سمعتُ همسًا أن استيقظ.. فتّحتُ عيوني، كانت الموناليزا، وقد لبست فستانَ سهرةٍ أنيق، وقد أعدّتْ طاولةَ العشاءِ بطعامٍ ذي روائح شهيّة.. ساعدتني على الاستناد، وجلست قبالتي.. ابتسمت وهي ترمي شعرها خلف ظهرها، كاشفة عن كتفين ناصعين وينطقان بجمالهما الممتد إلى عنقها المرشوش بما يبرق..

أبرقت خيالاتٌ كثيرةٌ وسريعةٌ، أصابتني دَوْخَةٌ باردةْ، رفرفتْ رموشي كجناحي طائرٍ خارجٍ للتوّ من أسطورةٍ قديمةْ، أمسكتُ أنفاسي المُتصاعدة، وأمسكتُ شوكة وسكينة، قطّعتُ مخلّلة خيار، تناولتُها ذاهبًا مع طعمِها كأني أتذوّقُها للمرّةِ الأولى في حياتي، بكاملِ الدهشة المصاحبة لذلك، دهشة اكتشاف الطعم ما أقصدُ، ارتسمت ملامح تلذُّذي على وجهي، نظرتْ مبتسمة، ووضعت طبق قطع اللحم أمامي، تناولت قطعةً فأصبتُ بتجلٍّ فتحَ شهيتي عن آخرها، ابتسمتُ لابتسامتِها التي ما تزال مرسومة على شفتيها الكرزيّتين، تأمّلتُ أصابعها الطويلة المنسابة على ركبتيها فيما ظهرها مفرود كأنّه مسنود على لوحٍ شفّاف، دعوتُها للأكل، ولا أدري من مِنا الضيفْ! وأيّنا الحُلم وأينا الحقيقة؟

اسمي ليزا، همستْ! وحضّرتُ هذا الطعام لكْ، أضافتْ بصوتٍ فيه بُحّةٍ خافتةٍ. للمناسبة، أنا مُتزوّجة! قالتها مع ضحكةٍ فاح منها عِطرٌ مُعتّق. أعرفُ أنني صرتُ امرأة كونية، وأنني دخلتُ كلّ بيوت العشّاق والشعراء والفنانين والمهووسين والمجانين، لكنني متزوّجة ولا زلت رغم كل ذلك مُخلصة لزوجي، هل لا زلت مُندهشًا من مغادرتي اللوحة ودخولي مطبخك وتحضيري للطعام والجلوس معك الآن والتحدّث إليكَ! أتمنّى أن تكون كذلك لما في الدهشة من حياة وجمال، أتمنّى كذلك ألا أكون قد أزعجتك! هل أصبّ لك كأسًا من عصير الفراولة؟ وامتدّت يدها إليّ بالكأس، وأضافتْ؛ وهي تنظرُ إلى عينيّ مُباشرةً، أن خمسة قرون من الحياة والترحال والقصائد والعُشّاق والموسيقى يشعرني بالضجرْ!

قامتْ في خطوتِها ثقة وبطء، أغلقت ستارة النافذة، وأطفأت إضاءة الغرفة، وعادت لتشعل شمعتين، بغتةً نزلَ ليلٌ هادئْ، أوكسجين الغرفة، والذي يدخل إلى صدري، مُعبّقٌ بعطرٍ يرقّصُ الدمَ في العروقْ، فتحت جهاز اللابتوب، وبخفّة من يعرف ماذا يريد ويحفظ جيدًا ملفات الجهاز، ذهبت إلى قطعةٍ موسيقيّةٍ بعينها، وأشعلتها كأنّها نارٌ تراقصت في صحراءٍ في ليلةٍ مقمرة. رقصتْ، وتمايلتْ كقطعةِ حريرٍ مفرودةٍ في وجهِ ريحْ. اقتربت مني، ومدّت يدها تدعوني إلى رقصتِها، رقصنا ثمّ...

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرَّجل الّذي أخفيته عن الآخرين

صالون نعيمة