10-أكتوبر-2018

عبد الكريم مجدل بيك/ سوريا

لا يهم أن تكون من دين مختلف أو من ثقافة أخرى طالما أنت ضمن مجتمع يفكر كالقطيع. مجتمع شُل تفكيره وجُرد من إنسانيته، مجتمع على الأرجح ليس متسامحًا ولم يكن يومًا كذلك. يدعي أنه يحمل رسالة سلام لكن باطنه ملغم بالأفكار المتطرفة والعنف ضد المرأة وضد الجمال، وضد الحرية الفكرية والفردية، وكل ما يمت للحياة بصلة.

لا يمكن للتوليب أن ينبت في  صحراء قاحلة كما  لا يمكن  للإبداع أن يتولد في مجتمع يحيا بأحكام دينية متعصبة

لا يمكن للفرد في مجتمع ديني متعصب أن يرتاح من الضغوط الفكرية الممارسة من السلطة الدينية التي يملكها رجال الدين وتجند لها الشعب. لا يمكن للتوليب أن ينبت في صحراء قاحلة كما لا يمكن للإبداع أن يتولد في مجتمع يحيا بأحكام شرعية عنيفة. لا يمكن لأحد أن يختار طريقه الخاصة في الحياة غير تلك التي عبدها الأسلاف لنا منذ قرون طوال، وأرغمونا على السير فيها مكبلين بأفكار قديمة لم تعد صالحة لنا كمجتمع وكأفراد.

اقرأ/ي أيضًا: الحقيقة ليست ما نعتقده دائمًا

من المستحيل على البشر أن يكونوا سواسية كأسنان المشط في كل شيء، لأن قانون الطبيعة يفرض التنوع والاختلاف في الأصناف والأنواع. كما من المستحيل أيضًا أن يصمد أي قانون طبيعي أمام النسبية التي تتحكم في الحياة حتى لو كان هذا القانون دقيقًا بالنسبة لنا، ويعتمد على مجموعة من الملاحظات الدقيقة والفرضيات. دائمًا ما يكون هناك نقص أو عدم اقناع تام حتى في أشد القوانين انضباطًا كقانون نيوتن الذي استبدل بقانون النسبية في بعض الحالات. أو الهندسة اللاإقليدية التي نابت عن الهندسة الإقليدية وتوصل بواسطتها ألبرت أينشتاين إلى قانون النسبية العامة.

هكذا تتغير القوانين وتعدل كلما اكتشفنا شيئًا جديدًا. لا شيء ثابت في هذا العالم، ولذلك علينا أن نكون مستعدين لأي رأي يخالف تفكيرنا واعتقاداتنا وما علينا إلا أن نناقشها ونحللها بعقلانية، لكن هل يمكن أن يحدث هذا في مجتمع رجعي يحلم بالخلافة وإحلال عقيدة واحدة لتعم العالم كله؟ أقول إن هذا ممكن في ظروف معينة لكن الأغلب أن هذه الحالات تتطلب تضحياتٍ وعملًا طويلًا دؤوبًا.

منذ قرون تعلمنا كيف نخاف من مخالفة الشرع ومواجهة الحقائق، والآن أصبح الخوف رهابًا يصعب تفكيكه وتصحيح مساره. الخوف من مساءلة أنفسنا ومخالفة معتقداتنا جعلنا نبني لأنفسنا جدارانًا عازلة من التعصب، لا نستطيع اختراقها لرؤية ما يحدث خارج نطاقنا أين يتغير العالم بسرعة قصوى.

لا يمكن لأي فكرة في هذا العالم أن تثبت مهما طال الزمن، ولا يمكن لأي دين أن يستمر إلى الأبد. فقد كشف تاريخ الديانات والحفريات عن ديانات استمرت لأكثر من عشرات الآلاف من السنين. أي أطول من الديانات السماوية بعشرات المرات. ولا يزال بعض هذه الديانات كالطوطمية مثلًا متواجدًا في قبائل بدائية تعتمد على الهلوسات والفن للتواصل مع العالم الآخر. ولأن خيال الانسان في تطور مستمر استلزم أن يغير معه طبيعة دينه الذي يتلائم مع تكوينه العقلي. فقد ولدت المسيحية التي تؤمن بمركزية الإنسان في عالم من المزارعين ومربي الحيوانات، أي عالم خاضع للإنسان. فالله، الآب ويسوع المسيح ممثلان فيه كأشخاص. أما الإنسان البدائي، كالباليوليتي مثلًا، كان عالمًا مسكونًا بالحيوانات. فمن الطبيعي أن تتعلق القدرة الخارقة بميزة حيوانية. ولا يمكن لإنسان مسيحي مثلًا عاش في القرن الأول ميلادي أن يمارس طقوسًا طوطمية باعتقاداتها الأولية. فتكوينه العقلي لا يسمح له بذلك. لأن العلم تطور وأصبحت له قدرة أكبر على التحكم في الطبيعة مما كان للإنسان البدائي من سذاجة العيش.

في الوقت الراهن، مازال بعض البشر متمسكين بأشياء حوّلها العلم إلى خرافات في حين أن أخبار الخوارق والمعجزات تتكاثر، خاصة بين الأمم الجاهلة والمتوحشة. وإذا ما تبناها شعب متحضر فإننا سنجد ذلك الشعب قد تلقاها عن أجداد جهلة ومتوحشين. نقلوها إليهم بقداسة تلك الحرمة وذلك النفوذ اللذين يصاحبان دائمًا عقائدنا الموروثة. نحن نعيش في عالم نسبي لا وجود فيه لحقيقة واحدة مطلقة، كما أننا أسأنا فهم هذا العالم وتجاهلنا طبيعته المتغيرة ووضعنا فيه أشياء وهمية، وثبتناها على أرضية متحركة حتى مادت بنا الأرض وسقط كل شيء فوق رؤوسنا، ولن نستيقظ حتى يصبح العالم الآخر بعيدًا جدًا ويتعذر علينا مجاراته وفهمه، ولن يبقى أمامنا سوى خيار الانقياد القصري إلى مركز القوة الذي لم يعد بين أيدينا.

هناك حقائق أثبتها العلم وتخطاها إلى مستويات أعلى بكثير، ولا تزال إلى اليوم في مجتمعنا مرفوضة تمامًا

لكن لماذا يخاف السلفيون من التفكير؟ لماذا نحن منعزلون ثقافيًا رغم تواجدنا في كل مكان مع عولمة الاقتصاد وكل التخصصات؟ لا زلنا عبيد الماضي نعيش المستقبل على أمل العود إلى الوراء. نتوق للبداوة والتوحش رغم مظاهرنا الحضارية. لا نملك الجراة لمواجهة الحقائق بأنفسنا. استكنا للجبن وارتحنا للوهم الذي غلف عقولنا لقرون عديدة. لقد أحطنا أنفسنا بحدود وهمية لا يمكن التفكير خارج حواجزها فشعرنا بأمان زائف. عذاب دنيوي مقابل خلود أبدي. ولكن ما أصل هذا الفكرة؟ كيف لنا أن نفلت الحياة التي بين أيدينا من أجل شيء لا نعرف حقيقته ولم يثبت أي شيء أنه موجود؟ كيف نشعر بالأمان في معية الوهم في حين أن التجربة أقرب إلى العقل؟

اقرأ/ي أيضًا: في كشف عورات الوهم

لا بد من أن نخضع كل شيء للتجربة، فلا فائدة شيء لا نستطيع فهمه سوى توليد مزيد من الخيالات والتأويلات الوهمية. لا بد من تجربة متواترة لكل معجزة سمعنا بها في الماضي. وإلا لما استحث الحدث تسميته، ولما كانت التجربة المتواترة تضاهي دليلًا، فثمة ههنا دليل تام ومباشر مستمد من طبيعة الوقائع، ضد وجود أي معجزة من المعجزات. لا يمكن إبطال هذا الدليل وتصديق المعجزة إلا بدليل مضاد يفوقه. الواقع أننا لا بد أن نحمي أنفسنا من الاعتقاد إلى الأبد بضمان مبادئ وقوانين دينية يمكنها أن تكون صالحة لكل زمان ومكان. هذا أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه الإنسان في هذا العصر. فهذه الاصطلاحات الكونية تلقاها مجتمعنا بشكل عشوائي في ظروف قاهرة يجب معرفة خلفياتها التاريخية.

إن تاريخ العلم يبين لنا أن العقل البشري غالبًا ما كان يدفع للإطاحة بعديد من مبادئ العلم، بالرغم من أن الرضى العام نظر إليها لعدة قرون بوصفها التفكير الذي لا يلائم العقيدة يحب أن يلغى، كنظرية التطور التي لا يتقبلها البعض ولا يريدون حتى فهم مبادئها وعلاقتها بالحياة عمومًا، وهل الحقائق التاريخية التي وقعت قبل قرون هي نفسها التي نعتقد بها اليوم ونبني عليها كامل منظومتنا الفكرية والدينية بدون إثبات علمي؟ إنه انقياد أعمى نحو الفوضى والتعصب، انقياد للوهم وإنكار للذات وللآخر. انقياد إلى مجتمع شمولي دكتاتوري، لا يؤمن بالحرية الفردية ولا حرية المعتقد. كل همه هو الانضواء تحت لواء الشريعة التي تولد الشعور بالحرمان والكبت والتعصب ضد كل ما يخالفها.

هناك حقائق أثبتها العلم وتخطاها إلى مستويات أعلى بكثير، ولا تزال إلى اليوم في مجتمعنا مرفوضة تمامًا بل مجرد التفكير فيها يحيلنا إلى الكفر والزندقة. نحتاج إلى جرعة من الشجاعة الفكرية وحراك ثقافي على كل الأصعدة لتشمل كل المؤسسات الثقافية والتربوية وحتى الدينية. ومن هنا يبدأ التحرر الفعلي للفكر الجماعي. فالفكرة التي تقيد العقل يجب إلغاؤها فورًا مهما بلغت قدسيتها من مكانة، فليس هناك شيء أكثر قداسة من الإنسان لأن فعل القداسة ناتج عنه هو. إذ أن الإنسان هو مصدر هذه القداسة وهو من يعطي لشيء ما قدسيته وليس العكس.

التعصب دليل على الضعف، ودائمًا ما يرتبط بجهلنا للأشياء. فهو متأصل في النفس البشرية ضد كل ما هو غريب ومجهول عنها، إنه كنوع من الدفاع الغريزي وحصانة وهمية ضد الأشياء الغريبة عن النفس البشرية، فتتكور على نفسها في دوامة قاتلة وتعيد هضم واجترار ما أعد لها سلفًا بطريقة آمنة. حتى يأتي اليوم الذي يتجرأ فيه الإنسان على استعمال عقله الخاص، ويتمكن من هزيمة خوفه وتحقيق أول انتصار لحريته الذاتية، ومن ثم تبدأ الحرية الحقيقية، التي تكفل لنا طرقًا جديدة نحو التنوع والعيش المشترك في عالم أجمل وأروع.

التعصب دليل على الضعف، ودائمًا ما يرتبط بجهلنا للأشياء. فهو متأصل في النفس البشرية ضد كل ما هو غريب ومجهول عنها

إن كان التفكير في اعتقاداتنا ممنوعًا فهذا يدل على أن مؤسس هذا الاعتقاد يخاف على أسسه من الانهيار، فلو كان قويًا كفاية فهو سيفحم جميع العقول بمنطقه وصلابة أسسه المنطقية والفكرية.  

اقرأ/ي أيضًا: هل للعقل حدود؟

مهمة المفكر في العالم الإسلامي تختلف كلية عن مهمة المفكر الغربي. فبينما ينهمك هذا الأخير على اكتشاف نظريات جديدة قد تغير العالم وتقلب الموازين لا يزال المثقف العربي محصورًا بين خيارين، إما الانفصال عن مجتمعه والكتابة للنخب،. أو تبسيط الخطاب ومواجهة الرهاب الفكري بكل ما يملك من جرأة، مقابل مستقبل مشرق يؤمن بالتعدد والاختلاف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مجتمع بدون واجهة

أعطني بناية أعطِك فكرةً عن سكانها