13-يونيو-2019

عبد الباسط الساروت (الجزيرة)

لو كنت في سوريا منذ عام 2011 وحتى الآن، في منطقة سيطرة نظام الأسد في سوريا، لكنت ربما أعلنت الولاء للنظام، ولو كنت في منطقة تقع تحت سيطرة داعش لأعلنت الولاء لداعش، ولو كنت في منطقة تخضع لجبهة النصرة لأعلنت الولاء للجبهة، ولو كنت في منطقة يسيطر عليها الجيش الحر لكنت أعلنت الولاء لهم. 

لا يمكن للثائر أن يقوم بتفصيل فصيل ثوري حسب قياسه ومزاجه، فقائمة القوى الفاعلة على الأرض تضم خليطًا من التناقضات

ولو كنت في أي منطقة تخضع عسكريًا لحكم أي طرف من الأطراف المتحاربة في سوريا منذ بدءالحرب السورية، لكنت أعلنت الولاء للطرف الأقوى المسيطر على الأرض. هل كان بالإمكان فعل غير ذلك؟ هل كان بالإمكان لأي شخص أن يعارض القوى العسكرية وأن يقاوم فرديًا دون الرجوع إلى الطرف المسيطر؟

اقرأ/ي أيضًا: الثورة السورية تخسر حارسها.. مقتل عبد الباسط الساروت في ريف حماة

أما الاحتمال الثاني فهو الخروج من كامل الأراضي السورية والتغريد خارج السرب ومعارضة النظام والنصرة وداعش والجيش الحر إذا لزم الأمر، لكن حينها سوف يكون موقفي هامشيًا، إذ في النهاية تتحكم موازين القوى على الأرض، بما لا يعطي للفرد الثائر سوى خيارات محددة عليه أن يختيار من بينها. 

لا يمكن للثائر أن يقوم بتفصيل فصيل ثوري حسب قياسه ومزاجه، فاللائحة لقوى الثورة الفاعلة أو للقوى المناوئة للثورة، تضم خليط من التناقضات والسلبيات والإيجابيات والخير والشر.

إذًا، على الثائر الاختيار، وفي اختياره يكمن نضاله ضمن الجماعة، فالحياد هو اختيار لا ثوري، إذ إنه خيار غير فاعل في مجريات الأحداث الثورية، ويعتبر بمثابة انسلاخ كليّ عما يجري في سوريا. الحياد ينهي رؤية الثائر للحياة المتخيلة التي يريدها وييضي على الأحلام الثورية لنظام الحكم المتخيل الذي يسعى الثائر لتشييده والعيش في كنفه.

فالثائر محكوم بالانتماء إلى فكر ونظرية، كما أنه محكوم بالانتماء إلى جماعة وسط دوي الرصاص ولهيب المعركة. فالحركة الثورية قلما يمكنها أن تؤتي ثمارها من خارج حدود الوطن، لأنها إما ستكون مرتهنة وإما مقاومة نظرية لا تستطيع التغيير الجذري كما في الحالة السورية، حيث يفرض الواقع العسكري شروطه على ما عداه.

ولا يجب أن ننسى أن محاكمة الثائر ضمن ثورة جذرية مسلحة متحولة إلى حرب أهلية، لا يستقيم مع الوضع الحاصل في سوريا، وذلك لأن الثائر يساوي صفرًا إن كانت ثورته منفردة ومن خارج الوطن، لأن القوى المتصارعة لا تقيم وزنًا للأفراد. 

وكما يقول برتولت بريشت: "في أي صراع بين المؤسسة والفرد، مهما كان الفرد قويًا ومهما كانت المؤسسة ضعيفة، في النهاية ستنتصر المؤسسة". فالساروت أو غير الساروت، لن يكون له أي فاعلية بمعزل عن الأحداث وبمعزل عن اتخاذ جانب ما من المتعاركين في الحرب السورية.

فالساروت اكتسب أيقنته من نضاله ومن موقعه الثوري، أي من خلال اختياره وقراره، ما ترتب عليه مسؤوليات والتزامات تجاه الثورة. الساروت هو الساروت، لأنه اختار الفعل والعمل ولم ينأ بنفسه، ولم يكن هناك خيارات متاحة غير الموجودة والمعروفة على الأرض بعدما تخلى العالم كله عن الثورة السورية. كان ثائرًا في معركة تائهة، وجد ضالته في التنقل بين فصيل وآخر إذ لا إمكانية لغير ذلك.

ويكتب ماهر أبو شقرا في تعليقه على مقتل الساروت والمحاكمات الأخلاقية التي طالته، قائلًا: "عفوية الثورات الشعبية ورومنسيتها شرط من شروطها. ولا يمكننا أن نطلب من الثوار أن يكونوا كالصراصير، ينغمسون في قذارة الواقع دون التلوث به. ولا أن يموت أهلهم وينكل بهم دون أن يتخذ الثوار مواقف متطرفة أو رجعية أو حاقدة. لا يمكن اشتراط العقلانية في الثورات. لو كان الواقع محتملًا، لو كان ثمة مكان بعد للعقلانية، لما اشتعلت الثورة".

والواضح لي أن الرومانسية لم تكن من شخصية الساروت، أرى أنه كان أكثر واقعية من غيره. الظاهر أن الرومانسية إنما أتت من مؤيدي الثورة السورية، هؤلاء الذين يريدون الثورة طاهرة ونبيلة وخالية من كل دنس وبمعايير أخلاقية وإنسانية سامية. 

هؤلاء هم الحالمون الذي يريدون للثورة أن تبقى فتية كما عهدوها في الأشهر الأولى، وكانوا يأملون لو أن نظام الأسد سقط بفعل ضغط المظاهرات السلمية، ويخشون الإقرار بأن الثورة لجأت إلى العنف الثوري المسلح، وبأن الثوار بشر يخطئون أحيانًا. 

وقع مؤيدو الثورة في حيرة بين مناصرة الساروت أو مناصرة مفجري السارين بشعوبهم. لوهلة يبدو أنها قضية إشكالية، لكن الساروت نحّى الإشكاليات جانبًا متقدمًا على مؤيدي الثورة.

هؤلاء من ينكرون الواقع ولا قدرة لهم على مواجهة حجج الآخرين، ذلك أنهم يفتقرون إلى صفة مهمة كان يجب اكتسابها خلال مسار الثورة وفهمها وهي: "الوقاحة". الوقاحة في عدم مهادنة الطاغية، وعدم الوقوف على الحياد، الوقاحة في اتخاذ الموقف الصريح، الوقاحة في رؤية الواقع القاسي كما هو، والاصطفاف مع كل من يمكن الاصطفاف معه لمحاربة النظام. الوقاحة لمعرفة أن الثورات ليست دائمًا نظيفة. الوقاحة في الدفاع عن الثورات وعن نجاحاتها وإخفاقاتها وأخطاءها ودنسها وشرفها. وأعتقد أن عبد الباسط الساروت وعى ذلك حين أدرك هامشية دوره منفردًا على الأرض السورية.

في الجهة المقابلة، أبدى مؤيدو نظام الأسد وقاحة في مواقفهم والدفاع عنها، فنادرًا ما نجد شخصًا من مؤيدي محور الممانعة خجولًا من أفعال هذا الفريق. هؤلاء يعيدون صياغة وتركيب المعايير الأخلاقية وفق أجندتهم، لأنهم يملكون من الوقاحة ما لا يملكه مؤيدو الثورة، وهذا ما أصاب مؤيدو الثورة في المنفى بضربات قاتلة بفعل التناقضات الحاصلة بينهم، واختلافهم المستمرة حول قضايا عديدة تصل أحيانًا حدود التراجع والخجل عن أفعال الثورة ومجرياتها.

اكتسب الساروت رمزيته من نضاله ومن موقعه الثوري، أي من خلال اختياره وقراره، ما ترتب عليه مسؤوليات والتزامات تجاه الثورة

إذًا، فالسؤال الذي يجب طرحه والتساؤل حوله، ليس حول كيفية أيقنة الساروت وجعله رمزًا للثورة في سوريا، بل السؤال الذي يجب طرحه هو: لو كان أي منا بدل الساروت، ما الذي كان سيفعله؟ ما الموقف الذي كان سيتخذه على ضوء المجريات على الأرض في سوريا؟ التنظير سهل، لكن الواقع مغاير تمامًا لمواقفنا التي نلتهي بإطلاقها عبر السوشيال ميديا وفي حياتنا اليومية الآمنة؛ فالحرب تفرض واقعها. والعمل الثوري يختلف كليًا فيما لو كان من داخل سوريا أو من خارجها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا بعد الساروت: موت أم حياة؟

الساروت في رحم الضمير الشعبي