كمال سبتي (2006 - 1954) شاعر عراقي ولد في مدينة الناصرية وتوفي في هولندا. قضى حياته في العراق وإسبانيا وهولندا. تخرج حاملًا شهادة في الإخراج السينمائي عام 1974، ثم واصل تعليمه بأكاديمية الفنون الجميلة، ولم يكمل فيها، فالتحق بالجندية، ثم هرب منها إلى إسبانيا، حيث أكمل دراسته في جامعة مدريد المستقلة، ثم طلب اللجوء السياسي في هولندا، وظل فيها يعمل بالكتابة حتى رحيله.

يصفه معجم البابطين: "شاعر مجدد، كتب الشعر المرسل، موسوم بعمق المعنى وكثافة التعبير، له خيال مركب متداخل في صوره، إذ تجعل قصيدته متماسكة في بنائها، فتبدو القصيدة مثل دفقة شعرية واحدة متعددة في معانيها، وقد تنزع إلى السرد، فتشتبك مع التاريخ أو الأسطورة أو الطبيعة التي تحضر مفرداتها بقوة، فتكسب قصيدته مسحة وجدانية رقيقة، ومجمل شعره يصدر عن ذات مؤرقة تناجي وتتأمل وتتساءل في فضاء زمني ومكاني واسع، متنوع في ملامحه ومعطياته وتأثيراته في ذاته الشاعرة".

من أعماله: "وردة البحر" 1980، و"حكيم بلا مدن" 1986، و"متحف لبقايا العائلة" 1989، و"آخر المدن المقدسة" 1993، و"بريد عاجل للموتى" 2004، وهو الديوان الذي أخذنا منه هذا النص.


يقع فندق الصياد في منتصف ساحة الميدان.  سكنتُه عندما كنتُ جنديًا، وحتى هربتُ من البلاد. كان لي فيه سريرٌ في غرفةٍ ذاتَ سريرين.

فمرةً إذن كنتُ أنامُ وحدي في الغرفة، ومرة كان يشاركني الغرفة زائرٌ لا أعرفه، لينامَ في السرير الآخرِ ليلة أو ليلتين أو ثلاثًا..

كنتُ أخرجُ منه كلَّ يومٍ إلى مقهى حسن عجمي الذي يقع في شارع الرشيد غير بعيدٍ من الفندق. وفي المقهى كنتُ أرى موسى كريدي وجاسب وجان دمّو وسيف الدين قاطع وزاهر الجيزاني وآخرين من الأصدقاء وقتَ الظهر من كلّ يوم..

وزيارتي للمقهى يومية كما كانت لمقهى البرلمان قبل تغييره إلى مطعم وإلى محلّ تجاريّ..

كنتُ أناكدُ صديقي موسى كريدي فيها، فآتي بأخبارٍ تزعم قبول الإيرانيين بوقف إطلاق النار، وكان هو يناكدني أيضًا فيأتيني بأخبار هجومٍ إيرانيٍّ قادم. وقد كنتُ جنديًا، فكان يحزنُ لهذا كلّ يومٍ..

وكان جاسب وسيف صديقيَّ اليوميين، أراهُما كلَّ يوم في المقهى ثمّ نذهب معًا إلى اتحاد الأدباء أو إلى بارٍ في شارع أبي نؤاس.

وقد رثيتُ جاسب عقبَ وفاته بنصٍّ عن حياتنا المهدورةِ، تَصدَّرَهُ إهداءٌ: إلى "م. ع" وقد كان الحرفانِ يعنيانِ موسى عبد، وهما اسمُ جاسب الأصليّ، فظنّ بعضهم بأنَّ ميشيل عفلق قد مات، وهو لم يكن قد ماتَ إلا بعد عامٍ تقريبًا من رحيلِ جاسب.

وكان زاهر يرافقني أحيانًا إلى فندق الصياد حين نخرج من المقهى لنستمرَّ في حوارنا حولَ نادي الشعر الذي تسلمناه أنا وهو بعد انتخاباتٍ جرتْ بشأن تأسيسه، لكننا بعد أنْ تدخّلَ قائدُ شعراء اانقلاب 1968 حميد سعيد في منهاجنا الشعريّ، تركنا النادي.

وإما جان فقد كان فندقي مأواهُ إذا لم يجدْ مبيتًا له في آخر الليل. تمامًا كما كان يفعل في أقسامي الداخلية العديدة.

قال لي جان مرةً عندما حثثته بقوة على الكتابة: أعطني خُرْفة "غرفة" أعطِكَ رواية.

قلت له مازحًا: وإنْ أعطيتُكَ مشتملًا، ماذا تُعطيني؟ ثلاثية؟

وجان صديقٌ قريبٌ إلى نفسي كثيرًا. تعرفتُ إليه عام 1975 عندما كان يسكن في شقة، في الشارع الضيق المحاذي للبرلمان. ولازمني بعد خروجه من الشقة طويلًا.

مرة رأيتُهُ جالسًا على أريكةٍ في مدخل فندق المنصور ميليا، وكان ثمة مهرجانٌ ما. ابتسمَ وناداني، تعال: اِسمعْ، وأخذ يقرأ لي قصيدة مليئة بمفردات شعر جماعة كركوك: اللامتناهي، اللازوردي، اللاشيء، الكينونة.. إلخ.

ففرحتُ به يكتبُ شعرًا من جديد. لكنَّ قصيدته تغيرتْ في ما بعد وأصبحت قصيدة معارضة للخميني.

قلتُ له ما شأنكَ بالخميني؟

قال: تشاجَرَ مصريان، في البيت الذي أعيشُ فيه، بالحيدرخانة، فتغيَّرَ مسارُ القصيدة!

دخلتُ إلى مقهى حسن عجمي لأرى جان للمرة الأخيرة قبل الهرب، فلم أره.

رأيتُ بعضًا من أصدقائي، فودّعتهُ في نفسي. ولم أرَ جاسب!

ودّعتُ المقهى. وفي الفندق هيأتُ حقيبتي وذهبتُ إلى اتحاد الأدباء.

كنتُ أوّدعُ الاتحادَ في نفسي كلَّ لحظةٍ، في آخر جلسةٍ، مخبئًا عن صحبي أمرًا جللًا. وأمام بابه الخارجيِّ بكيت.

وأمام فندقِ الصيّادِ في الصباحِ، كنتُ أستقلّ التاكسي الأخيرَ في بغداد.