• إلى عز الدين بوركة

البارحة

أمضيت الليل بطوله، أسبح في بحر من الأحلام. سجين في غرفة صغيرة مظلمة. ينيرها ضوء شمعة ممل. أثاث الغرفة كلها، مكتب وكرسيان من خشب بال وأريكة قديمة أتشاطرها مع جدتي أحيانًا، تنبعث منها رائحة بول الأيام وركام من الكتب والجرائد القديمة على الأرض. وعلى مائدة خشبية صغيرة بجانب المكتب، بضع كسرات من خبز يابس وصحن مزركش من عدس، ينط عليه الذباب.

الساعة الثانية والنصف مساء

حين جرعت آخر جرعة من كاس الشاي البارد، وخرجت من عتمة غرفتي إلى بياض الشارع لتلسعني ريح ساخنة مشحونة بالغبار، عدت على إثرها إلى المنزل لأخلع معطفي الأسود البالي العتيق وحذائي الشتائي الذي يهرب من ثقوبه المطر. الدكاكين والمقاهي لم تفتح أبوابها بعد، الشارع يوم الجمعة أثناء غفوة القيلولة يكون خلو من المارة. أحس كما لو أنني الوحيد في هذه المدينة، أحيانًا أتخيلها معتقل وأن نفسي أصبحت سجينة فيها.

مشيت طويلًا وأنا شارد الدهن. عيناي تتصيدان كسرة خبز. على جنبات الطريق ألمح رجلًا عجوزًا ملقى على الرصيف، بسبب إفراطه في الشرب ليلة البارحة. دسست يدي في جيبي لأتفحص مالي، فوجدت بضع دراهم وضعت في يده درهما دون أن يعي بوجودي، في حين احتفظت بالدراهم المتبقية لموعدي.

لحظات قليلة وجدت نفسي الهث أمام مقر الحافلة، التي ستقلني إلى موعدي. المقر يعج بالعمال والطلبة، بعضهم يدرس في معاهد خاصة وبعضهم في كلية العلوم.

الساعة الثالثة مساء

الشمس بدأ يثقل لهيبها. الكل يروم من مكانه مختبئًا تحت ظلال الأشجار الوارفة الموجودة على جنبات الشارع العام. ها هي ذي الحافلة تقترب نحوي شيئًا فشيئًا، تكاثر اللغو والدفع.

صاحت فتاة من خلفي:

- مليكة... احجزي لي مكانًا في الأمام

أجابها أحد المتشردين مستهزئًا منها:

- لا... بل ستحجز لك مكانًا بين فخدي السائق.

أنظر من بعيد كعادتي كل يوم، الكل يتهافت أمام باب الحافلة

- سمير... جواد... حل لباب راه شمش.

سائق الحافلة "موسطاج الكلب" ينظر إليهم عبر النافذة وهو يضحك، تقدمت نحوهم لأشاركهم هذا الوضع الحميمي، أمامي فتاتين بدينتين. رائحة الماعز تفوح منهما، يتحدثان أحيانًا لغة فرنسية رديئة، موسطاج الكلب ينظر إليهما وهما يبتسمان، لا شك أن إحداهما ستجلس بين فخديه كما سمعت أحدهم يقول. أضحى المقر في فوضى عارمة. تكاثر اللغو والأصوات ورائحة اللحم البشري، لم أعد أفكر في موعدي مع عبد الله. أفكاري تلاشت وتبخرت عبر فقاعات الهواء واختفت. لم أعد أرىأمامي غير الأرداف والنهود الضخمة العفنة.

الثالثة وخمسة عشرة دقيقة

أراني داخل الحافلة رفقة جيش من الطلبة. تراميت على مكان منزو يسار الحافلة حتى أستطيع اختلاس النظر عبر الزجاج. في الخارج لمحت كلابًا سوداء يقتلها الجوع والغربة مثلي، غمرني إحساس غريب، ذرفت دمعة واحدة تذوقتها، فأحسست ملوحتها ومرارتها.

الرابعة مساء

أراني في المقهى جالسًا منفردًا أنتظر الذي يأتي ولا يأتي، قرص الشمس بدأ يخف لهيبه، رواد المقهى هذا المساء لا يتجاوز عددهم رؤوس الأصابع. النادل يختفي ثم يظهر من جديد، حسبته يلعب معي لعبة الاستغماء. فتاة رشيقة تمر أمامي، يتبعها شاب نحيف.فكرت: لا شك أنها ستصفعه كما حدث معي يومًا.

باغتني هو هذه المرة بتلويحة من يده قائلًا:

- أشرف... تعال لنجلس هناك

قمت من مكاني وتوجهت نحوه. صافحني بحرارة. جلسنا في المكان الذي اختاره منعزلًا عن الناس. عيناه لا تفارقان سقف المقهى وكأنه يتذكر شيئًا ما مضى.

قال:

- لم أجلس في هذا المقهى منذ زمن طويل

وقوف النادل أمام مائدتنا حجب عنا أشعة الشمس، التي بدأت تسحب آخر خيوطها الذهبية. طلبت فنجان قهوة سوداء وطلب عبد الله شايًا بالنعنع بدون سكر.

قال لي بهمس:

- ماذا تدرس

أجبته بحماسة شديدة:

أدرس في شعبة التاريخ والحضارة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء.

- ظننتك تدرس في الرباط

أردف قائلًا:

- لقد درست مدة أربعة أشهر فيها، ولكن منذ عهد بعيد

أضاف:

- صحيح...أنت تكتب؟

- لقد مزقت كل ما كتبته منذ سنوات.

- ولكن لماذا؟

- عندما أقرا مثلًا كتابات بوسريف أو برادة أو شكري أو أنت أجد نفسي... ثم إن الوقت لا يسمح وذلك يقلقني...

- معك حق الكتابة تحتاج إلى وقت.

سادت لحظة من صمت رهيب. أنظر إليه بدقة، وهو في قمة الاسترخاء. يرتشف تارة من كاس شايه ويمج من سيجارته تارة أخرى. بدأت بعض الأفكار تغزو مخيلتي، إذ خيل إلي أني في حلم وأن قريبًا ما ستأتي يد ضخمة لتسحبني منه.

خرجت من شرود عالمي هذا قائلًا:

- أحب كتابات محمد شكري.. هل التقيته يومًا؟

- نعم 

صرخت مندهشًا حتى التفت بعض الرواد اللذين ازداد عددهم

- واو... كيف هو؟

ضحك:

- إنه شخص ظريف ولكنه كان يثور أحيانًا ويتذمر من كون أن البعض يسب كتاباته ويلعنه.

- تمنيت لو التقيته ذات يوم، لقد قرأت جل أعماله باستثناء "الخيمة".

- لقد أعطاني إياها أثناء لقائي به لكني فقدتها، بعدما أعارها أحد مني والمشكل أني لم أعد أتذكره.

أردف قائلًا:

- هناك أستاذ آخر كنت قد أعطيته مجموعة من الكتب جلبتها معي من فرنسا لكاتبة فرنسية تكتب بأسلوب جميل، لأنه كان بصدد تحضير أطروحة عنها فلم أحصل على كتبي بعد.

- أنا أيضًا كنت قد أعرت رواية "امرأة النسيان" لفتاة تدرس الحقوق فلم أحصل عليها.

في هذه الأثناء دست يدي في محفظتي وأهديته كتاب لابن رشد وكتاب لدوستويفسكي.

ابتسم قائلًا:

- شكرا لك إني لم أقرأ "مذكرات قبو" لدوستويفسكي بالعربية، بل قرأته فقط بالفرنسية.

أردف:

- أخبرتني في الهاتف أنك تود نسخة من ديواني "فراشات سوداء".

- صحيح لقد قرأته عدة مرات ولكني أريد أن أحتفظ به في مكتبتي، إنه بالنسبة لي صفوة كتب القرن العشرين.

- للأسف... أنا شخصيًا أفتقر إلى نسخة منه.

- لماذا لم يتم إعادة طبعه على الأقل في نسخة الجيب؟

مج من سيجارته وقال:

- معك حق... لا أعرف لماذا أظن أن المشكلة تكمن في التوزيع ثم إن الدولة تحارب نوعًا ما الكتب الثقافية.

لحظة صمت.

باغته قائلًا:

- لقد قرأت كتابك "سلالم الميتافيزيقا" 

- كيف وجدته؟

ابتسمت كي أخفف نوعًا ما من بشاعة القول.

- لم أستطع أن أفهمه لذلك لم أتجاوز خمس صفحاته الأولى

أضفت من جديد:

- وماذا عن كتابك "رقصة الرأس والوردة"؟

- هو الآخر لا... لكن أظن انك لن تجده إلا إذا ما وجدته في المكتبة الوطنية بالرباط.

في هذه الأثناء أذن لي بانصرافه، بعدما قمت من مكاني وترجلت معه قليلًا وقلبي يرقص رقصة عجيبة. عند باب المقهى سلمني روايته "مقبرة السعادة" وكتب لي إهداءه عليها ثم عانقني بحرارة قائلًا:

- إهدائي هذا إليك يبقى مجرد حروف، ولكن الشعور بطعم الصداقة أعمق من ذلك بكثير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هنا الشاعر

ابن آدم والبحث اللامنتهي