24-مايو-2017

فهد الحلبي/ الجولان المحتل- سوريا

هل خلق الله آدمَ طفلًا صغيرًا ليحبوَ في جنته ويكبر ثم يشب عن الطوق تحتَ رعاية الملائكة وأمامَ صلواتهم؟!

وصلنا إلى أثينا بعد خمسة عشر يومًا من المشي على الأقدام، بين القطع العسكرية والقرى الصغيرة المترامية بين تركيا واليونان، وأقول بأننا وصلنا إلى أثينا لأننا بلعنا اللقمة الأولى من الخوف وانتهينا من تحسسِ طعمها في أثينا، ولأنّ وصولنا إلى مدينة "إلكساندر بولي" لم يكن وصولًا حقيقيًا، بل كان مرورًا سريعًا مليئًا بالتلفت والتوهم والتوجس، وكل ذلك بسبب تورطنا بتهمة اللجوء، وما يترتب عليه من ترحيلٍ سريع إذا ما لمعت وجوهُنا بسوريّتنا.

انتهى كيلو التمر الذي كنّا نحمله لنقتات عليه في اليوم الرابع، وقد لامني أخي لتركي قطعة البسكوت على حافة شباك غرفتي في إسطنبول قوتًا للعصافير، وأنا لمتُ بدوري الطبيعة، لأنّ الأشجار لم تكن تحمل شيئًا يُذكر ليُطعمنا خلال المسيرة.

كان يتوجبُ عليّ، كأيّ عابر سبيل قادته الطرق إلى أثينا، أن أمرَّ بالهضبة العالية "أكروبوليس"، وأقف على بوابتها الرئيسية "بروبيليون" لأتفقد إذا ما كانتْ هناك الآلهة، أو أحدهم على الأقل، طمعًا بعفو إلهي، أو تكريمٍ رباني بعد رحلة الحج التي انتهيتُ منها توًا، ورغبةً ببعض الأجوبة على كثيرٍ من الأسئلة المعلقة، والتي لم أعثر لها على أي جواب حتى اللحظة.

كان لوننا المُغمّق مناسبًا للمشي بين السُيّاح المتواجدين حول المعبد. وبالرغم من أننا مشينا في رحلتنا ليلًا ونمنا في الغابات تحت ظل الأشجار، مختبئين من عين الشمس كما من أعين أي عابرٍ طارئ، فإنني لم أعرف من أين أتت هذه السُمرة الفاحمة؟! ربما كانت خجلًا من البلدان التي رحّلتنا، أو التي أساءت معاملتنا، أو أغلبُ الظن بأنه تفحّم في القلب، تسرّب من مسامات جلدتنا ليقول ما لم نستطع أن ننطق به من قبل!

صعدتُ أول ما وصلنا حتى قمة الهضبة، مرورًا فوق عتباتها المهترئة مُتلقفًا أنفاسي بين حين وفين. خلال طريق شديد الميلان، كانت رؤية الأنوار الخافتة التي سوّرت حذافير الطريق حتى نهايته تساعدني في تبين طريقي المعتم، وفي نهاية تلك الطريق تفاجأتُ بأنّ البوابات كانت مغلقة مع أني رأيتُ بأم عيني أنوار المعبد مُنارة، أي فظاظة هذه وأي استرخاء تقبع فيه الآلهة في قمة هضبتهم العتيقة. لم يفتحوا لي البوابات مع أنّهم في الداخل جالسون يسخرون مني، أو لربما يتهامسون على سخافة اعتقادي بأنني سأجد ترحيبا حارا فور وصولي. لم يفتحوا لي وسمعتهم يتهامسون: "غريبٌ إصرار البشر! هل يجب أن نُطفئ الأنوار ليتصرفوا كما لو أننا لسنا هنا؟ لن نفتح".

غادرتُ إلى "ثيسالونيك" بعد أسبوع واحد من إقامتي في أثينا، وكنتُ، قبل رحيلي، أحدّق كلّ يوم إلى الهضبة العالية فأرى الأضواء مُنارة داخل المعبد، وخيالات الآلهة تتحرك من بين الأعمدة الكبيرة، أسمعُ ضحكاتهم غير المكترثة، المشغولة بتكوير الرؤوس البشرية ودحرجتها من أعلى الهضبة حتى أسفل سهل الحياة. حيث كنتُ في غرفتي الصغيرة البعيدة، بقيتُ أعدّ الأخيلة الإلهية وأمرّر الوقت بالحسرة.

بينما كنتُ أقطعُ القسم الثاني من رحلتي رحتُ أفكر فيما كان ليحدث لو أنهم سمحوا لي بدخول المعبد حقًا، لو أن البوابات كانت مفتوحة، لو أنني جلستُ أطرح الأسئلة على الآلهة وأحصد الأجوبة واحدا تلو الآخر، وفي كل مرة كنت أفكر بهذا الاحتمال كنتُ أستمر في المشي مبتعدًا عن اليونان ومتوغلًا في مقدونيا ألحق سكة الحديد كأنها "خط الحياة" المرسوم على راحة يدي. كنتُ أعلم كأيّ بالغ بأنّ الأجوبة للأطفال، يسألونك أشد الأسئلة براءة وغرابة لتجتهد في اختراع ما يناسبهم، ويلائم فهمهم لعالمهم الصغير الكبير جدًا في آن واحد:
"طلبت من الله سيارة حمراء جديدة، لماذا أرسل لي دبابة عوضًا عن ذلك؟".
"لماذا هنغاريا باردة جدًا يا أبي؟".
"لماذا نهربُ منهم مع أنهم يلوّحون لنا بالأعلام السوداء؟ أريد أن ألعب معهم".
"تمنيتُ من الله أخًا ثالثًا، أين اختفى أخي الثاني؟ هل ذهب ليحضر أخانا الجديد ويقوده من يده لكي لا يضلّ الطريق؟".
"هل يتكلم الله اللغة الألمانية أيضًا؟ وهل انتقل كثيرًا بين المدارس واشتاق للكثير من أصدقائه؟".
"هل..؟".
"كيف..؟".

كنتُ أعرف بأنني كبالغ لن أحصلَ على الأجوبة التي أريد، وبأنني سأسعى وراءها طوال حياتي، مع أنني في بعض الأوقات كنت أحسّ بأنني أقف كطفل صغير أمام أخي الذي كان يحاول تمريق الأجوبة بطريقة هزلية مفبركة آملًا بأني سأكتفي بها.

هل خلق الله آدم بالغًا في جنته ليمشي فيها ويتظلل بوارف ظل أشجارها، ويبني له كوخًا منزويًا يتفكر في جنته الحديثة المتسعة؟

نحنُ حشريون بالفطرة، كان بإمكاننا أن نخرُج من بطون أمهاتنا إلى الجنة مباشرة، دون ترانزيت مؤقت في هذه الحياة، لكننا اخترنا أنْ نبقَى قليلًا هنا ونسأل عما يخطر في بالنا، كأنّ الأجوبة متوفرة وبالمجان.

الجنة هي جواب مفقود لأسئلة يتردد صداها ولا تنكفئ.

عندما كنتُ طفلًا سمعتُ أبي يقول لأحدهم:" اعلمْ بأنكَ مفلسٌ عندما تكتفي بالحديث عن الماضي فحسب". ولكني هنا في النمسا لا أملك إلا الذكريات، لغتي ما زالت طفلة صغيرة تنتظر مكافأة أو قطعة سكاكر مع كل جملة صحيحة، وأصدقائي، الذين يُعَدُّون على أصابع اليدين، مشغولون، بعيدون، مكتئبون أو يكتبون الشعر ولا يأتون إلا إذا وقعتْ على رأسهم قصيدة.

أنا لا أشتكي ولكنني أقول: "الحمد لله بأنني لم أفقد أحد أصابعي في الحرب".

لستُ مفلسًا لكن الماضي جميلٌ أيضًا، تستطيع انتقاء أجمل ما فيه فقط، الأحب إلى قلبك فقط، حتى الماضي الذي لا تستطيع تذكره بحذافيره، يُخيّل لكَ بأنه واحة كبيرة لا تُقدّم إلا الماء العذب، وأنتَ.. عطشان.

في التسعينات، كنا نعيش في المدينة الصغيرة التي لا يتذكرها أحد إلا إذا كان يريد أن يزور زنوبيا أو يركب الجمال أو يشتري النفط "كسوفونير" من إقامته المستشرقة، في تلك التسعينيات كنتُ أعتبر زنوبيا جدّة السياح لذلك يأتون لزيارتها بانتظام للاطمئنان عليها وعلى رأسها، ليس ذلك فحسب، أنا جار زنوبيا لم أرها في حياتي.
في تلك الفترة الذهبية من طفولتي، كنّا نشاهد إعلانات القنوات الأجنبية المتلفزة: 
«تعالوا إلى أوروبا، جنة الله على الأرض»
هل رأى آدم تلك الإعلانات من فوق فاعتقد بأنه في المكان الخاطئ!
 
الجنة أيضًا هي البحث اللامتناهي عن كل الذكريات القادمة، ومقابلة هذه الجنة وتحقيقها وملامستها بين أصابعك ـ التي لم تخسر إحداها في الحرب لحظ عابرـ قد تعني زوال القيمة العظيمة المعوّلة على هذه الجنة.. قد تعني انتهاء الهدف من هذه الحياة كلها. وسواء كانت هذه الجنة هي اكتساب معرفة، تفرد بحب، الانتماء إلى مجتمع جديد ثاني أو الحنين إلى مجتمع أول قابع تحت الحرب، إن كانت محاولة في اكتشاف أسرار الحياة أو تحقيق نجاحات لا تضاهيها أي نجاحات أخرى. فإنّ كل ذلك يفقد قيمته لحظة تحقيقه ويبدأ السعي فورًا خلف الهدف التالي أو الجنة التالية.

لا أعرف إذا كان الله قد خلق آدم طفلًا صغيرًا في جنته، فشعر آدم بعد كل تلك الإقامة بشهوة للترحال، أو البحث عن جنة مليئة بالكتب كتلك التي لطالما حلم بها خورخي بورخيس، أو لربما شعر آدم بالملل والضجر في جنته حيث يفتحُ بابها كل يوم ويعرف تفاصيلها وله في كل زواياها ذكريات طفولة ومغامرات مراهقة; فقرر بأنه يحتاج إلى جنة جديدة مجهولة لا يمتلك خريطتها، فيقضي حياته يبحث عنها ويعطي أيامه وصيرورته ووقته هدفًا من البحث والتنازع الداخلي اللامنتهي: "أيّ من هذي الجنان الجديدة تكفي تلك المساحات الواسعة من الشهوة والرغبة والتردد".
 
كما أنني لا أعرف إذا كان الله قد خلقه بالغًا تلفتَّ خلفه فلم يجد تاريخًا ضاربًا في النسيان ولم يعرف من هو في قرارة نفسه، فقضى أيامه في جنة لا يعرفها وحرّكته مشاعر الحنين إلى مجهول لا يعرفه، يملأه بمشاعر الإلفة والتوازن، شيء ما، كأن يبحث عما يشبهه ويقول: "هذه هي التي كنتُ أبحث عنها وهنا ينتهي هذا البحث اللامنتهي!".

لا أعرف أيّ واحدة من هاتين الحقيقتين حقيقي، ولكني أعرف بأنني "ابن آدم" وأشعر بشيء يشبه ما شعر به أبي، يوم تركَ جنته وبدأ بالمشي نحو حدود لا يعرف إذا كان سيعود منها، أو إذا كان سيعبرها وتنتهي رحلته على خير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خمس رسائل ضوئية إلى ريما

صورة تذكارية