يا ليتها نامت بحضني تلك الليلة. صحيح أنني كنت متعبًا جدًا، وليس لي قدرة على مضاجعتها، لكنه كان يكفيني لو اندست معي في فراشي لتحميني من الوحدة في تلك البلدة القاسية. عليّ أن أعترف أن ما حدث معنا كان فوق ما كنا نتوقع، كيف اجتمعنا أنا وهي تحت سقف بيت واحد؟ يا لمحاسن الصدف! بل يا لسوء حظي الذي لم أحظ منها، وهي معي كل هذا الوقت، بلمسة أو قبلة أو حتى أن أرى منها شيئًا. لقد ظلت مرتدية ملابسها كاملة، أشك في أنها استبدلتها لتلبس منامتها التي أحضرتها معها وحشرتها في حقيبة اللابتوب.

في ذلك الوقت لم أفكر فيها، وإن كنت أشتهيها وهي بعيدة عني، وحلمت بها مرات عديدة، كانت تتلوى تحتي طرية مجنونة، وأودعت أحلامي بها الكثير من القصص التي أشك في أنها قرأتها، أو انتبهت إلى أنها هي المقصودة. الآن هي معي، والباب مقفل، وليس معنا أي ثالث، أعتقد جازمًا أن الشيطان لم يكن موجودًا في ذلك البيت، كأنه أضاع الطريق إليه، فلا يحسن بالشياطين أن تسير في طرق فرعية غير معبدة لتصل إلى بيت وجد فيه صدفة رجل وامرأة ليغويهما كي يناما في فراش واحد. كأن هذه المغامرة لا تستحق المجازفة من الشيطان الذي كان كسولًا جدًا. أتراه تعب منا؟ أم أنه بالفعل كان لا يرانا نستحق أن يجازف بحياته ليوجد معنا في هذا البيت النائي؟ ولعله كان جبانًا يخاف من كل شيء حوله، كما كنّا نخاف. هل يا ترى تخاف الشياطين أيضًا مثلنا نحن البشر؟ أعتقد أنه لا داعيَ لمثل هذا السؤال.

الساعة تقترب من الثالثة صباحًا، تسامرنا طوال الليل، في هذه السهرة الطويلة التي امتدت لأكثر من أربع ساعات، لم يكن معنا، وكنا جائعين، سوى رغيف من الخبز وكوبين من الشاي الساخن، نأكل رويدًا رويدًا، لم يكن خبزًا فقط، صار له وظائف أخرى؛ نوع من التسلية، لم يتبق من الرغيف سوى كسرة خبز تعادل راحة كفها النحيلة، تركتها لي فوق كوب الشاي، وانتقلتْ إلى الغرفة المجاورة.

ذهبتُ لأقضي حاجتي، بضع دقائق، دخلت الغرفة، وجدتها قد أعدتْ لي الغطاء مرتبًا فوق السرير، والمخدة في وضعها المناسب، مرتبة هي الأخرى، أندسّ في فراشي، أدفن رأسي في الغطاء. أسلمت نفسي للنوم، لم يكن نوما عميقًا، ولم يكن متقطعًا أيضًا، صحوت في حدود الساعة الثامنة صباحًا. أذهب إلى الحمام بحذر شديد حتى لا أزعجها، فأفسد عليها نومها. المياه مقطوعة في هذا الصباح. أي فأل سوء هذا؟ استعنت بقنينة، ممتلئة إلى أكثر من نصفها، رجعت إلى الغرفة، أتصفح جهازي ريثما تنهض رفيقتي من نومها. لم يطل الوقت حتى أطلت بجسمها النحيل الرقيق، بكامل ملابسها، كما تركتها وتركتني الساعة الثالثة صباحًا. لم تنم في تلك الليلة كما أخبرتني، أنجزت بعض الأعمال الملحّة، وتابعنا حديثًا كنا خضنا فيه قبل عدة ساعات. أظن أننا رجعنا إلى النقطة التي كنا قد توقفنا عندها لنكمل الحديث، أو يهيأ إليّ الآن أنه كان كذلك.

علينا أن ننتظر ريثما يأتي أحدٌ ما، ممن هو مسؤول عن البيت الذي نحن فيه، ليتسلم المفتاح، إذ يجب علينا ألا نغادر قبل أن نطمئنّ على أن البيت أصبح في أمان، على الرغم من أن أحد هؤلاء الشباب عرفنا على البيت ومرافقه، وسألنا إن كنّا نرغب في النوم سويًا في غرفة واحدة أو منفصلين. كما أعطانا تعليمات مفصلة عن كيفية إقفال البيت ونحن فيه أو عند الخروج منه، ومكان ترك المفتاح، والطريق التي سنسلكها في اليوم التالي للمغادرة.

بقينا في البيت حتى حوالي الساعة الواحدة ظهرًا، نسلم البيت لأحدهم، ونعود إلى حيث أتينا. ونحن في الطريق الوعرة بين أشجار الزيتون قبل الوصول إلى المجمّع، تضحك وهي تنظر إليّ. كانت عيناها محمّلتين بريقًا لافتًا، وتتأهب للحديث:

- "لقد كنا مجانين".

- "ولماذا كنا مجانين؟" -وأكملتُ في سري وأنا لا أشعر بأي نوع من المشاعر- "أيّ جنون هذا، ولم يحدث بيننا شيء يستدعي وصفه بالجنون؟".

قالت وهي تبتسم: "شايف كيف الزمن بدور وبلف؟ مين كان يتخيل؟" أجبتها- وأنا غارق بالبلادة متصنعًا ضحكة مشابهة-: "كانت ليلة جميلة"، فتكمل عني: "كانت ليلة من العمر". ضحكت من نفسي ومن غبائنا المضاعف، أي جمال فيها؟ قضيناها نثرثر ومعنا كوبان من الشاي وكسرة خبز، والتعب يهدّنا، والمياه مقطوعة، الكهرباء وحدها هي التي لم تخذلنا في تلك الليلة. أظن لو أن الكهرباء عادت إلى عادتها في تلك الليلة، لربما باتت في حضني أو بتّ في حضنها لدعاوٍ كثيرة؛ أقلها الشعور بالأمان وسط غابة من الظلام، في بيت مركون في خلاء موحش، وليس فيه أنيس إلا مجموعة من الأغراب، قد يهاجموننا في أيّ لحظة. مؤكدا عدم قدرتي على مضاجعتها وأنا في تلك الحالة، إذ كان يكفيني أن أبيت تلك الليلة في فراشها، لأشم رائحة جسدها، دون أن أمدّ يدي لأتحسس خريطة جسمها الناعم. ربما لو حدث ما فطنتُ إليه وأنا أكتب، لكان يستحقّ أن أتصوّره سردًا غير هذا، لكنّ للشتاء قوانينه -أحيانًا- التي تفسد المتعة حتى في القصص.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فلاديمير هولان: من أين يأتي هذا الطريق؟