بجوار منزلنا وفي قطعة أرض يملكها أبي يستوطن قبر لميت مبارك يقال إنه كان من الأولياء الصالحين ويدعى "سيدي بوصاع"، وتآلفًا معه نطلق عليه اسم "جدي بوصاع". لطالما بدا لنا هذا الاسم مضحكًا لكنه يبدو جديًا ومقدرًا عند كثير من الناس. استقر به المقام في تونس وكانت وفاته في "سبيبة" من ولاية القصرين، حيث بُني له مقام كبير نطلق عليه اسم "الزاوية". يأتي الليبيون من كل أنحاء بلدهم إلى مدينتنا الصغيرة للدعاء له والتبرك ببركاته. حتى أهل مدينتي، عرش ماجر، يأتون لزيارة المقام من أماكن بعيدة في المدينة. ومن دون استئذان أو تردد، يشقون أرضنا محملين بهدايا لم يحدث مرة أن كان لنا فيها نصيب، وشموع يطفئونها قبل رحيلهم، وأدعية تشبه الأغاني لكننا لم ننجح مرة في حفظ كلماتها ولم ندعَ يومًا لغنائها.

كنا أنا وأختي نرى هذا القبر- المزار منحوسًا، فلقد حمل لنا عددًا غفيرًا من الغرباء دون أن يكسر وحشتنا المثمرة. كما أن الولي لم يستجب دعواتنا ولم يفضلنا على الغرباء الآخرين. القبر بجوار البيت ووحشته تسدل أذرعها على شبابيك غرفنا وتمنع عنا روائح الجنان المسكرة. أما زواره فلا يبالون بنا ولا يلقون علينا السلام، حتى أنهم لا يهتمون بفساتيننا القطنية المرمية فوق أجسادنا الكسولة المهملة. ولا يلقون بالًا لمآسينا الطفيفة التي كنا نصورها ونلونها نهارًا لتغسلها رطوبة الليل ويمحوها نور الفجر كأنها ما كانت. كانت ضحكاتنا المثيرة للشفقة تتهاتف وتتواتر بغية قطع الصمت، لكنها لا تلبث أن تسقط قبل أن تعبر سقف الغرف المغلقة. كما لو أن هناك بئرًا عميقة تمتص أصواتنا وتغرق معها كل ضحكاتنا.  كل صباح كنا نتساءل بدهشة الأطفال: كيف وصلنا إلى هنا؟ ثم ننسى السؤال ونغرق في الصمت. كان كل شيء واضحًا. لم يكن الأمر يحتاج إلى تفسير... إنه ذلك القبر الذي جلب لنا النحس يشمخ بمقامه ويعتز بزائريه الغرباء، وحرمة الموت التي تخيم على شاهدته تسحب الحياة من حوله وتمتصها نحو بئر عميقة مخفية.

ذات ليلة قررنا أنا وأختي أن ندعو له، ونناجيه. كانت طقوسنا نسخة هزيلة عن طقوس زائريه لكنها كانت مبتكرة، مشينا حوله وصدحنا بالدعاء ثم غلبنا الضحك. والحق، إننا حاولنا جاهدتين أن نركز أفكارنا ومشاعرنا على مآسينا الصغيرة، لكننا لم نثبت على جديتنا طويلًا. دعونا لأبي دعوات جادة لكنها سرعان ما أصبحت خفيفة، يغلب عليها استخفاف ضحوك. وتذكرنا دعواتنا القديمة التي خصصناها لمساعدة أخي على الإقلاع عن معاقرة الخمرة.

لكن أخي لم يلبث أن مات متأثرًا بجروح نجمت عن حادث سير، ما كان ليحصل لولا أنه كان مخمورًا في تلك اللحظة. وكان أن دفناه في قبر بجوار قبر الولي. اعتقدنا أنا وأختي، أن الولي لم يفهم دعاءنا أو أنه قد فهم خلاص أخي من إدمانه بعكس ما كنا نرجو. كنا نريد منه أن يساعد في إطالة عمر أخي، وأن يساعده في الإقلاع عن الخمر. لكن الولي على ما يظهر فهم الأمر معكوسًا، وسحبه إلى جانبه. ومنذ ذلك الحين صرنا ندعوه ألا يستجيب لدعواتنا وأن يرسل لعناته إلينا، ويحجب عنا حسناته وشفاعته.

لا أذكر كيف ومتى ضجت كراهيتنا لهذا الولي وحلت عليه لعناتنا صافية وسخية. لكن تربية كرهنا له جعلتنا نشعر بخفة لذيذة وشريرة. صار ضحكنا حرًّا شهيًا، وصرنا نرفع فساتيننا لنعري أرجلنا في حضرة المقام. وهذا منح روحينا الصغيرتين الشريريتين الحاقدتين سكينة وصبرًا.  صرنا نلقي بشموعه بعيدًا، ونغير أمكنة الأغراض المنتشرة حول مقامه: البندير، الكتب وقطع الأقمشة الصغيرة الملونة التي يأخذها الزائرون معهم ليتبركوا بها. لكن نشوتنا الشريرة لم تخف القبر وتنقله من مكانه، ففي الأيام التالية عاد زواره يشقون أرضنا من دون استئذان كما كانوا دائمًا.

إنما ولدهشتنا، لم يعد اجتياح زائري المقام لأرضنا مزعجًا. ورغم أنهم استمروا على عادتهم بتجاهلنا وعدم إلقاء التحية علينا، إلا أننا لم نعد ننتظر تحياتهم وأقلعنا عن الدهشة من طقوسهم، واستوى عالمنا الضيق على نظرة ثابتة ومشهد واحد. لقد اكتشفنا أن أحزاننا ومآسينا لن تختفي، ولن تذوب، وأن فراق أخي لنا سيبقى يقبع ثقيلًا في جوفينا وجوف هذه الأرض المنحوسة. لقد توقفنا عن مراقبة الزائرين وطقوسهم كما لو أن قطعة الأرض التي يقوم عليها المزار ذابت داخل نفسها وابتلعت المزار والمدفون وزائريه إلى الأبد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سبع شلطات، سبع تمرات، وموس اللام

صالون نعيمة