01-مايو-2018

عمل لـِ"دييغو ريفيرا"

عندما نشر الفيسلوف السويسري البريطاني آليان دو بوتون، المثير للجدل سياسيًا، كتابه "قلق المكانة" في نقد إصرار الرأسمالية والمجتمع الحديث على جعلنا نتوق لمكانة اجتماعية واقتصادية، كأنها شرط لحياة جميلة بالنسبة لكل شخص، مع أن ذلك النظام لا يتيح هذا الهدف إلا لحالات استثنائية وفردية. كتبت صحيفة الغارديان البريطانية نقدا لاذعًا للمؤلف، تتساءل فيه عن معنى أن يكتب رجل مولود لعائلة غنية في شمال سويسرا، لحث الناس على التخلي عن هذا التوق. بدا ما كتبته الصحيفة مقنعًا، ومريحًا من الناحية الأخلاقية.

كتب بندكت إندرسون مرة أن كتابه  "الجماعات المتخيلة" حظي بهذه الشهرة بسبب كتابته بالإنجليزية، أي بلغة الهيمنة

بعد فترة وقبل أيام نشرت الصحيفة مقالا عن "اشتراكيو اللاتيه" الذين يتمتعون بامتياز اقتصادي، ويعيشون نوعًا من الترف، في نفس الوقت الذي يرددون فيه شعارات في مناصرة العمال وضد التباينات الاقتصادية. دافع المقال عن إمكانية أن تكون مترفًا، وتشرب اللاتيه في مقاهي الطبقة الوسطى، وأن تتمتع بهذا الامتياز، وفي نفس الوقت، أن تناصر العمال وتنشئ تصورك للحياة والعالم على أساس هذه المناصرة، أو بمعنى أضيق أن تكون اشتراكيًا.

بدا ذلك مقنعا أيضًا، ومريحًا بشكل أقل من الناحية الأخلاقية. لكن الموقفين متناقضان بالتأكيد. في المرة الأولى هناك مجادلة بأن أصحاب الامتياز لا يمكنهم نقد مصدر امتيازهم، أو الحديث عن آخرين لا يملكون هذا الامتياز. في المرة الثانية، هناك دفاع عن أصحاب الامتياز وعن حقهم في نقد النظام، الذي هم وامتيازهم جزء منه بالتأكيد.

اقرأ/ي أيضًا: "اشتراكيو اللاتيه".. هل بإمكانك أن تكون اشتراكيًا وغنيًا في نفس الوقت؟

إن حياتنا اليومية، لا سجالاتنا النظرية وحسب، مليئة بهذا النوع من المناظرات. هل يحق للرجال أن ينتقدوا التمييز على أساس النوع الاجتماعي؟ بما أنهم يستطيعون ممارسة هذا النقد أكثر من النساء أنفسهن نتيجة لامتيازهم كذكور. هل يحق للأغنياء أن ينتقدوا الرأسمالية، وللأوروبيين أن ينتقدوا المركزية الأوروبية؟ إلخ.

تعليقًا على كتابه المرجعي "الجماعات المتخيلة"، كتب بندكت أندرسون مرة أن هذا الكتاب حظي بهذه الشهرة، بشكل أساسي بسبب كتابته بالإنجليزية، أي بلغة الهيمنة. وقال إنه لو كتب بلغة أفريقية لم يكن بالتأكيد سيحظى بهذه المقروئية العالية. كان هذا النقد جميلا، ومتصالحًا كثيرًا مع الامتياز الذي يحوزه المؤلف، لكنه لم يغير شيئا بطبيعة الحال. حاز الكتاب على فرصة أكبر من أي كتاب مكتوب بلغة أخرى ليكون مقروءًا، والمؤلف ما زال محظوظا أكثر بهذا الامتياز.

أيام الجامعة، طلب أستاذ في علم الاجتماع من الطلاب أن يكتبوا ملخصًا بالإنجليزية لجميع الأبحاث التي يكتبونها بالعربية. قال إن تعلم الإنجليزية ضرورة بحثية اليوم، ويحسن بالتأكيد من فرص الطلاب في إكمال التعليم العالي في جامعات متميزة في العالم. كان هذا صحيحًا بالتأكيد. وقتها، خرجت زميلة متحمسة، وقالت إنه ليس من حق الأستاذ أن يفرض على الطلاب أن يتعلموا الكتابة بلغة صارت أساسية نتيجة علاقات السلطة والسيطرة. كانت السيدة التي تنتمي إلى طبقة وسطى وتجيد الإنجليزية بطلاقة، على حق أيضًا. اعترض الأستاذ وقال للطلاب إنها تجيد الإنجليزية أكثر من العربية، وإنه ليس من حقها أن تحرضكم على ألا تتعلموا مثلها.

اقرأ/ي أيضًا: التاريخ الدموي للسعادة.. الأوتوبيا الأقسى

ليس هناك إجابة واضحة بطبيعة الحال، على هذا النوع من التساجل اليومي في حياتنا جميعها. ليست المشكلة في أن أصحاب الامتياز ينتقدون مصادر امتيازهم. المشكلة أنهم قادرون على هذا النقد بسبب هذا الامتياز. هناك جملة تقليدية جدا، تقول إن من يطاردون قوتهم اليومي، لن يكون عندهم ترف التفكير في أنفسهم كمجموعة كاملة ومحددة لها حقوق يجب النضال من أجلها. وغالبا ما ارتبط التنظير ضد التباينات الاقتصادية بأشخاص في درجة معقولة من هذا التباين. كذلك فإن النساء اللواتي يتعرضن لضغوط هائلة لتجنب أي حديث عن حقوقهن في المساواة، خاصة مع البروباغاندا اليومية ضد "المرأة المستقلة" و"المتذمرة"، لسن قادرات على نقد هذه الثقافة، بالسهولة نفسها التي يمتلكها الذكور.

يبدو نقد الامتياز بمثابة نوع من التصالح النفسي لأصحابه. يمكننا أن نتمتع به ويمكننا في نفس الوقت، أن نريح قلقنا الأخلاقي من خلال نقده. هذا معروف، لكن هناك تساؤلا شرعيا غالبا ما يتم تجاهله في هذا النقاش. ماذا على أصحاب الامتياز أن يفعلوا؟ هل على الذكور أن يلعبوا الدور المحدد والواضح لهم في هذا النظام، وأن يستمتعوا ويستثمروا بتفوقهم من دون أي قلق أخلاقي؟ وهل على أبناء الطبقات الوسطى والأغنياء أن يستغلوا امتيازهم بدون أي قلق بالفقراء، ومن دون أن ينتبهوا لوجودهم أصلا؟

يبدو نقد الامتياز بمثابة نوع من التصالح النفسي لأصحابه. يمكننا أن نتمتع به ويمكننا أن نريح قلقنا الأخلاقي من خلال نقده

أحيانًا يتعذر منطقيًا أن نخلع امتيازاتنا. كيف يمكن لذكر أن أن يتخلى عن امتيازه الجندري؟ أو لشخص جاء إلى الحياة، ولغته الإنجليزية "المسيطرة" هي اللغة الأم؟ مع ذلك، فإن هناك نزعة قاسية ومتطرفة، تريد أن تجرد أي شخص لديه أي نوع من الامتياز من قدرته على النقد.

وكما يفعل هؤلاء "المتفوقون" عندما يتخلصون من مآزقهم الأخلاقية والنفسية من خلال نقد مصدر تفوقهم، فإن أولئك الذين ليس لديهم امتياز يفعلون لكن بطريقة أخرى. من المريح ومن السهل نظريًا لهم أن ينظروا إلى كل صاحب امتياز باعتباره شريرا تقليديا، من الميسر عداؤه. تبدو حالة أولئك الذين لا يتساوقون تماما مع تفوقهم، عصية على الفهم، وتبدو أقصر الطرق، أن نجردهم من فاعليتهم ومن حقهم في النقد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تعني الاشتراكية العدالة في توزيع الفقر؟

سلافوي جيجك.. الاستشفاء بجرعة لينينية