02-نوفمبر-2022
حروفية لـ أحمد البارودي/ ليبيا

حروفية لـ أحمد البارودي/ ليبيا

العنوان، أعلاه، ليس وهمًا معنويًا حول دور الكتب في حياة الناس، بل تكاد الكتب أن تكون علاجًا ملموسًا، مثل أي عقار طبي ينقذ حياة المريض من الموت.

شخصيًا، أنقذتني قصيدة لي من الموت، نشرت في مجلة "الأقلام" العراقية، الحكومية، عندما كنت جنديًا مكلفًا في معسكر الرشيد، عام 1973، وهي القصيدة الوحيدة لي التي نشرت في صحف الحكومة آنذاك.

جعل غابرييل غارسيا ماركيز من الحب ثيمة جمالية تخفف من وطأة الدكتاتورية، ليس في كولومبيا وحدها، بل في مناطق شاسعة من جمهوريات الموز اللاتينية

استدعاني مساعد آمر المعسكر، ناصر محمد ناصر، ليحقق معي بشأن تقارير حزبية/مخابراتية رفعها عني زملاء الدراسة الذين هم الآن زملاء جنود في المعسكر ذاته، نقتسم الخيمة ذاتها والقصعة ذاتها.

أثناء التحقيق، ولكي أكسب مزيدًا من الوقت، لمحت مجلة "الأقلام" تلك على طاولة مكتب الضابط بين صحف ومجلات حكومية عدة، فقررت أن ألعب معه، لعبة الشاعر والضابط، فمددت يدي نحو المجلة لأريه قصيدتي واسمي.

اندهش الضابط وتغيرت لهجته معي في الحال ليقول مازحًا: كيف لي أن أحقق مع شاعر معروف. إنها ورطة كبيرة، بل مسؤولية. ثم أردف: أنت، إذًا، شاعرنا، شاعر معسكر الرشيد.

أخرج أوراقًا من درجه.. لوح بها أمام وجهي وقال: هذه مجموعة تقارير ضدك ملخصها: إنك شيوعي خطر وكادر طلابي متقدم في اتحاد طلاب الشيوعيين.

إنها قصة طويلة، أختصرها بهذه الخاتمة: رمى الضابط بالتقارير في سلة المهملات، ثم أبلغني: أنت الآن في مأمن حتى انتهاء دورة التدريب. عد إلى خيمتك.

هكذا أنقذتني قصيدتي من الموت في وقت كان فيه موت شاعر شاب، جندي، أبسط، كثيرًا من كتابة قصيدة.

جعل الكولومبي النوبلي غابرييل غارسيا ماركيز من الحب ثيمة جمالية تخفف من وطأة الدكتاتورية، ليس في كولومبيا وحدها، بل في مناطق شاسعة من جمهوريات الموز اللاتينية، فهو القائل: كنت مؤمنًا على الدوام بأنّ الحب قادر على إنقاذ الجنس البشري من الدمار وهذه العلامات التي تبدو ارتدادًا إلى الوراء هي على العكس من ذلك تمامًا في الحقيقة: إنها أنوار أمل"، ويضيف: "إن هذا الحب في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يشتد كثافة كلما اقتربنا من الموت".

أمل الكتابة ليس وهمًا بلاغيًا إنما هو رسالة مخلصة/وصفة طبية من كاتب موهوب تنقذنا من أشد حالات اليأس والخطر.

في كلمته أمام اللجنة النوبلية، في ستوكهولم، قال ماركيز بشأن قوة الكلمة، ما معناه: آمنت بقوة الكلمة منذ ما قبل أن أصبح كاتبًا عندما كنت أهم بعبور الشارع وإذا بصوت القس الذي كان قريبًا مني يصرخ باتجاهي: احذر! لا تعبر. ثمة سيارة مقبلة. وهكذا أنقذتني صرخته/كلمته من الموت.

إدواردو غاليانو، من الأورغواي، يسهم معنا، هنا، إذ يقدم شهادته في أن أحد كتبه "كرة القدم في الشمس والظل" أنقذ حياة عضو برلمان مكسيكي من موت محقق عندما أوشك خاطفوه على قتله، لكنه كان يروي لهم قصصًا من ذلك الكتاب عن كرة القدم، حيث كانوا يتجادلون قريبًا منه وهو بين الحياة والموت. أُعجب الخاطفون بتلك القصص من كتابي، وقرروا إخلاء سبيله وحملوا أسلحتهم وغادروا إلى مكان آخر، بعد أن أبلغوه أنت في مأمن.

غاليانو نفسه يعترف بأن هدف ذلك الكتاب هو أن يتخلص محبو كرة القدم من خوفهم من الكتب، وأن يتخلص محبو الكتب من خوفهم من كرة القدم، أي لم يكن يخطر في باله أن كتابه سينقذ حياة عضو برلمان مكسيكي مختطف.

مثلما تتملكنا تلك الدهشة المشعة ونحن نقرأ، ثمة ما هو غير متوقع، أيضًا، مما تفعله الكلمة في زمان ومكان بعيدين عن أحلامنا.