10-مارس-2021

غارسيلا ديرغادو/نيويورك تايمز

ثمة نقاش في الترجمة، والسينما أيضًا، حول ما يمنح المترجم (الممثّل) القدرة على تمثّل الحالة الشعورية الكامنة في النصّ الأصلي والشهود عليها ونقلها عبر لغة جديدة في نصّ آخر، وما إذا كان المترجم الرجل، مثلًا، قادرًا على نقل نصّ شديد الحساسية يدور حول تجارب وتحوّلات فردية معيّنة للمرأة، كتجربة الولادة والأمومة كأقرب وأوضح مثال، أو قدرة المترجم أو الممثّل غير المثليّ على التعبير عن تجارب مثلّية، أو قدرة المترجم من دولة كبرى ذات ماضٍ استعماري على ترجمة من كانوا خاضعين للاستعمار، أو ترجمة الأبيض لعوالم الأسود وتجاربه. هذا التساؤل النظري ذو الأبعاد العمليّة التطبيقية، يرتبط بجانبين أساسيين، الأول يقف عند فحص "القدرة على الشهود"، التي تضمن نظريًا التعاطي الإيجابي مع الحالة النفسية والعاطفية التي يعبّر عنها النص والتعاطف معها، أما الثاني فيتتبع النقطة التي قد ينتقل عندها ناقل النص من وضعية المترجم إلى وضعية الناشط، بمحاولته التأثير على مقولات النص الأصلي وتضخيمها تعاطفًا وتماهيًا معها، أو تخفيف حدتها أو حتى كتمها وحذفها، رفضًا لها أو عجزًا عن فهمها.

لم يتوفّر في المجتمع العربي اليوم ذلك التراكم الحقوقي المدني والديمقراطي الحرّ المرتبط بظاهرة  التحرّش بالشكل الذي ينعكس في اللغة التي نستخدمها للحديث عن ذلك

قد تنسحب هذه الجدليّة ربما على النقاشات الدائرة حول قضيّة التحرّش بالمرأة، على اعتبار الملاحظة التي ترى أن النقاش الاجتماعي حول التحرش يتحوّل بطريقة عبثية إلى مناظرة عامة حول المرأة وجسدها، دون أن تكون هي نفسها طرفًا مرجعيًا أساسيًا فيه. فمن بوسعه حقًا أن يتحدّث عن تجربة فظيعة كالتحرّش الجنسي أو الاغتصاب سوى الضحيّة نفسها، وكيف يمكن مثلًا التسليم باللغة التي يستخدمها المتصدّر للحديث عن واقعة مثل التحرّش وهو لم يختبر تجربة مشابهة، ولم يتوفّر في المجتمع الذي يتحدّث فيه ذلك التراكم الحقوقي المدني والديمقراطي الحرّ المرتبط بالحديث عن التحرّش وفظائع آثاره على ضحاياه من النساء والأطفال، بما ينعكس في اللغة التي نستخدمها للحديث عن ذلك. كيف يمكن في هذه الحالة استغلال الجريمة نفسها، جريمة التحرّش، في تكريس تصورات معادية للضحيّة ومشمئزّة منها وباحثة عن أيّ حجّة لتجريمها، عبر الإصرار على تأطير ما حدث لها عبر لغة ذكوريّة طهوريّة ومحافظة، وضمن خطابيات رجعيّة بشأن المرأة وكيانها. يمكن كذلك في المقابل أن تتحوّل الظاهرة إلى مجرّد فرصة لسجالات ثقافويّة غير مكلفة، وادّعاء تمثيل الضحيّة التي لم تفوّض أحدًا لتمثيلها، واستخدام الضحيّة نفسها وقضيتها لتصفية حسابات لا علاقة لها بها.

اقرأ/ي أيضًا: نيتشه والمرأة.. تناقضات الظاهر والباطن

من يتحدّث عن التحرّش دون تعاطف مبدئي مع الضحيّة ورغبة في تفهّم ما يحدث عليها (وعليه) من تحوّلات نفسيّة مكربة عميقة وشديدة بسبب الاعتداء، وضمن السياق السياسي والاجتماعي الخانق الذي نعيشه، يكون أشبه بمن يضيء شمعة في وضح نهار أوهامه ومسلّماته المريحة التي يعيش فيها، من دون القدرة ولا الرغبة على إضاءتها في مكانها الصحيح، أي في المساحات المعتمة والمسكوت عنها. فنرى مثلًا أن كثيرًا ممن يتحدثون عن التحرّش، خاصة من فئة واسعة من رجال الدين مثلًا، لا يتناولونه كجريمة يلزم الوقوف فيها مع الضحيّة مبدئيًا، ذلك أن التضامن هنا مكلف، ويخالف المتوقّع شعبيًا منهم أصلًا. فكيف يتضامنون مع من هي موضوع دائم للنفي والسيطرة والإخضاع؟ وكيف يتضامنون دون الوقوف أولًا على نوع اللباس الذي كانت ترتديه الضحية، ومسوغها للخروج من منزلها؟ بل ويصل اللوم على المراة في موضوع التحرّش إلى مديات عجيبة، كالقول الذي تداوله البعض في اليومين الأخيرين بأن المتحرّش لم يفعل فعلته إلا لتقصير زوجته معه، جنسيًا! وهكذا يمتدّ هذا الخطاب بالضرورة إلى "إشكالات" فرعيّة على الجريمة، بصورة بالغة الإهانة للضحّية ونافية لحقّها المبدئي المطلق في الكرامة والمساواة الإنسانية.

بعض الدعاة المتصدرين للحديث عن التحرّش يتناولونه بهدف حرف الانتباه عمّا يجب تغييره في الشرط السياسي والاجتماعي والثقافي القائم 

فالداعية اليوم إما أن يسكت عن الموضوع وكأنّه لا يعني المجتمع (أحد مشاهير الدعاة في الأمس فضّل الحديث عن العين والرقية الشرعية، وآخر أشهر منه قرّر أن هذه الموجة المناهضة للتحرّش بدعة بدأت بالغرب وأن المجتمعات الإسلامية إنّما تحاكي ذلك، وأخرى، كاتبة إسلامية، اختارات تسليط الضوء على العنف الذي يتعرض له الرجل في الغرب بسبب النسويّة!)، أو إذا تحدّث عنه فإنّه لا يتحدّث إلا للتدليل عبره على "فساد" المجتمع الحاصل بسبب "سفور" المرأة وخروجها إلى الأماكن العامة واختلاطها بالرجال. وهكذا فإن قطاعًا لا يستهان به ممّن يسعون إلى احتكار الصوت ويدعون تمثيل المرأة- من الدعاة بشكل أساسي باعتبار مدى تأثيرهم في سياق الردّة السياسية الحاصلة في مجتمعاتنا العربية وفراغ المشهد من السياسي الفاعل، إما ملتزمون بالصمت إزاء القضيّة، وإما إن تحدثوا فإنما يتحدثون لحرف الانتباه عمّا يجب تغييره في الشرط السياسي والاجتماعي والثقافي القائم، فيعمّقون خنادق التابوهات، للحيلولة، عبثًا طبعًا، دون خلخلة التصورات السائدة عمّا يجب أن يكون عليه الرجل، والمرأة، في المجتمع، وضبط مساحات حريّة وحركة كل منهما.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مع جوليا كاميرون.. نحو كتابة إبداعية دون رجم

هل المرأة إنسان؟