12-مارس-2016

جدار في مدينة نابلس (Getty)

اختفت بوسترات الشهداء من على جدران المدينة، قصص الشهداء أنفسهم تراجعت على ألسنة الناس. بات الشهيد يُختصر في بوست على الفيسبوك، وسرعان ما يختفي أثره. وللمقارنة بين انتفاضتين، أو بين زمنين، تستطيع أن تمشي الآن في شوارع رام الله أو نابلس، أو داخل مخيماتهما، ولن تلحظ ذلك الوجود الطاغي لصور الشهداء، في حين أن المشي نفسه قبل عقد أو أكثر كان سيكون محروسًا بعيون الشهداء التي تملأ الجدران، كما تملأ القلوب. 

تصنع عيون الشهداء وحدة فلسطينية، أو تخلق صلات بين أشلاء الخريطة الفلسطينية الممزقة

كانت البوسترات تصنع هيبة المكان الفلسطيني وخصوصيته، كما كانت توحّد الجغرافيات الفلسطينية المتباعدة، فالبوستر الذي تراه على جدران طولكرم، سوف تراه هو نفسه على جدران مخيم اليرموك في فلسطين، أو في أزقة مخيم عين الحلوة في لبنان. بهذا تصنع عيون الشهداء وحدة فلسطينية شاعرية، أو تخلق صلات وصل بين أشلاء الخريطة الفلسطينية الممزقة.

 اقرأ/ي أيضًا: "طريق الثوار خضرا".. تطويع الجبال الفلسطينية

كان بإمكان هذه البوسترات وحدها أن تقول تاريخ القضية الفلسطينية كله. كانت مادة تاريخية لا تحتاج إلى من ينظمها في دراسة أو بحث، لأنها كتاب عفوي وطبيعي كتبته قوة الإنسان العادي وشجاعته في التعبير عن كرامته، وعن حقه، وعن وجوده. كما كانت شهادة حيّة على توهج فكرة الفداء في المجتمع الفلسطيني، داخل الوطن أو في الشتات.

في عالم اليوم الذي تستعر فيه شهوة الموت ثمة من يضيّعون الفارق بين الشهداء الكرامة والعنفوان وبين أعداء الحياة الذين يقتلون، باسم استعادة مجد الدين، أبناء جلدتهم. يأتي لك في مقابل تراجع الحركة النضالية في فلسطين، بسبب حصارات لا تنتهي تمارسها السلطة الفلسطينية والاحتلال معًا، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد بطولات فلسطينية متواصلة، نراها في عمليات الطعن والدهس؛ نتحدث هنا عن غياب الحركة الثورية المنظمة، وما يرافقها من غيابات أخرى أبرزها غياب الملصقات.

 اقرأ/ي أيضًا: لا يعرفون أين تقع القدس!

أشكال التعبير ذاتها أيضًا تغيرت وأصبحت مقولبة، وباتت متماهية مع سلطة الواقع الجديد التي فرضتها سيكولوجيا وسائل الاتصال الاجتماعي وقوانينها. كأن هذا الاختفاء هو تحول آخر، مع أن المسميات ما زالت ذاتها، ومع أن القاتل هو هو لم يتغير. 

كانت شهادة حيّة على توهج فكرة الفداء في المجتمع الفلسطيني، داخل الوطن أو في الشتات

ماتت أشياء كثيرة فينا، تحول الإنسان ومعه قيم الشهادة والحرية أو التضامن أو التكافل والمشاركة إلى أشياء عادية يمكن تعويضها في الفضاء الإلكتروني، فلم نعد نذهب إلى المشاركة في تشييع الشهداء، ولم يعد للشهداء أيضًا هذه السطوة، وأكثر من ذلك أن الشهادة، في قدرتها على التقاط لحظة الإنسان في تمرده على واقعه وعنفوانه، تغيّرت وصارت من ضمن الأشياء العادية التي من الممكن سماعها ونحن نقلب صفحات الفيسبوك. يقول يوسف إدريس إن أخطر ما يمكن حدوثه للإنسان هو الاعتياد. وربما لهذا بالذات يجب وضع الاعتياد بين أعتى أعداء الشعب الفلسطيني.

لا يمكن لوم وسائل الاتصال الاجتماعي على ذلك، فما حدث فعلًا بعد هذه الثورة في وسائل الإعلام، أننا كشفنا على الملأ عن العطب الذي مسنا كمجتمع وأفراد، وقريبًا جدًا سيكون متاحًا فتح سراديب العزاء على الفيسبوك، بعد أن استحال كل شيء فينا إلى حجر.

 اقرأ/ي أيضًا:

السيرة القسرية للمدينة الفلسطينية

ما يشبه مقاطع فيديو فلسطينية