صباح يوم الأحد، الثاني من تموز/ يوليو 1961، وقبل الساعة السابعة صباحًا، فتح إرنست همنغواي (1899-1961) مخزن البدروم واختار بندقية صيد بماسورة مزدوجة من على الرفّ، وحملها إلى الدور العلويّ. هناك، وبعد وضعه خرطوشتين فيها، أسند مؤخّرتها على الأرض، وضغط بجبهته على الماسورتين، مُفجّرًا رأسه، ومُنهيًا حياته.

أمضى جلّ همنغواي حياته شاهدًا على عصره، وكتب رواياته مُتّكئًا على تجاربه المُعاشة

أكثر من نصف قرنٍ من الزمن مرّ على الواقعة المُفجعة التي أنهى فيها همنغواي حياته. الروائي الأمريكي الذي اختبر الحياة على امتداد أكثر من ستّين عامًا؛ أمضى جلّ سنواته تلك شاهدًا على عصره، يكتب رواياته مُتّكئًا على تجاربه المُعاشة، وأسفاره الطويلة التي واكب عبرها ما يسمّيه "صراعات النصف الأول من القرن العشرين"، أي الحرب العالمية الأولى والثانية، بالإضافة إلى الحرب الأهلية الإسبانية. وذلك إمّا متطوّعًا، أو مقاتلًا، أو مراسلًا صحافيًا.

اقرأ/ي أيضًا: كيف كشف إعصار إيرما عن أول قصة لإرنست همنغواي؟

في رسائله الصادرة حديثًا عن "دار آفاق" المصرية، والمعنونة بـ"رسائل إرنست هيمنجواي" ترجمة الشاعر المصريّ عبد المقصود عبد الكريم، نتعرّف عن كثب إلى الروائي الأمريكي وحياته المُبهمة، بفوضاها وألغازها وتفاصيلها الدقيقة والدسمة. ذلك أنّ الرسائل الصادرة في مجلّدين اعتمد عبد الكريم في نقلهما إلى العربية على نسخة حقّقها الروائي والناقد الأمريكي كاروس بيكر، وصدرت سنة 1981؛ بمثابة حديقة خلفية لحياة مؤلّف "موت في الظهيرة" ورواياته. كما أنّها سيرة ذاتية حيّة لتجربته القاسية في الحبّ والعيش والكتابة.

إرنست همنغواي، وفي رسالة كتبها قبل وفاته بثلاث سنوات، كان قد طلب من القائمين على تنفيذ وصيته ألّا "تنشر هذه الرسائل التي كتبتها في حياتي. وبناءً عليه، أطلب منكم عدم نشر أيّ من هذه الرسائل، أو الموافقة على نشرها". ولكن وصيته هذه لم تجد أذانًا صاغية، تبعًا لشدّة أهمّية رسائله الـ 581 المكتوبة إلى أفراد عائلته وأصدقائه وزوجاته. بالإضافة إلى كبار كتّاب عصره، أمثال جروترد شتاين، وسكوت فيتزجيرالد، وجون دوس باسوس. ناهيك عن عددٍ من الشّعراء، كأرشيبالد مالكيش، وإزرا باوند. ومجموعة واسعة كذلك من الصحافيين والمترجمين وناشرين ومُحرِّري دور النّشر.

هكذا، يضعنا كاتب "باريس وليمة متنقّلة" أمام فرصة ثمينة لمعرفة طريقته في التفكير، والكتابة، وطبيعة المواد الخام التي يستند إليها في تشييده لعمارته السردية، والأسلوب الذي يتّبعه في عملية تحرير ما يكتبه. بالإضافة إلى مواقفه من كتّاب عصره ونقّاده ورأيه بما يقدّمونهُ. كما سنتعرّف إليه صيّادًا ومُلاكمًا مولعًا بمصارعة الثيران، ومقاتلًا على جبهات الحرب العالمية، وصحفيًا في البلدان المشتعلة والممزّقة. إنّها، وباختصار شديد، مادّة ثمينة ودسمة: "نتعرف من خلالها على كل ما يحدث له وما يحدث حوله وما يدور في ذهنه في أثناء حدوثه، ومن هنا وصفي للرسائل بأنها سيرة ذاتية حية، في مقابل السيرة الذاتية العادية التي تؤلف من الذاكرة بعد أن تكون الذاكرة قد مارست كل آلياتها اللعينة". يقول عبد المقصود عبد الكريم في حديثه لـ "ألترا صوت".

تضعنا رسائل همنغواي أمام فرصة ثمينة لمعرفة طريقته في التفكير والكتابة، وطبيعة المواد الخام التي يستند إليها في تشييده لعمارته السردية

اقرأ/ي أيضًا: 10 حقائق "غريبة" عن إرنست همينغواي

المترجم المصري يرى أنّ رسائل مؤلّف "الفردوس المفقود" تعكس في حقيقة الأمر صورته بطريقة واضحة تقدّمه عاشقًا متيّمًا، وكاتبًا مُجدّ يعمل كل صباح قبل شروق الشمس وربما يستمر إلى ما بعد الظهيرة، مُدركًا وعارفًا لعدد الكلمات التي يكتبها يوميًا. بالإضافة إلى صورته كمحرّر لرواياته، مُمعنًا في الحذف والتنقيح حتّى "لا يبقى في النص كلمة يُمكن الاستغناء عنها". وصديقًا للكتّاب والشّعراء والقادة العسكريين الذين رافقهم في الحرب العالمية الأولى والثانية، وكذا الحرب الأهلية الإسبانية التي انخرط فيها مقاتلًا في صفوف "الألوية الأممية" إلى جانب الجمهوريين في مواجهة فرانكو ودكتاتوريته.

 

ومن خلال رسائله نفسها، نكتشف طبيعة تأثيرات تلك التجربة القاسية على فكره وأدبه، أي تلك التي تجسدت في روايته "لمن تقرع الأجراس". فالروائي الأمريكي كان قد خرج من تجربة الحرب الأهلية الإسبانية مقتنعًا بفكرة أنّ الكتابة لن تكون تعبيرًا مباشرًا عن اللحظة المعاشة، إن لم تكن نظيفة من الزوائد والزخارف البلاغية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العبقرية والجنون والخيط الرفيع الذي بينهما

"أنت قدري": أسرار علاقة دي بوفوار مع عشيقها الشاب في رسائل جديدة