31-يوليو-2017

بيير أليشينسكي/ بلجكيا

ما علاقة العبقرية بالجنون؟ سؤال شغل العديد من علماء النفس والمهتمين بسير عباقرة التاريخ، طمعًا في فك لغز إصابة كثير من الفلاسفة والفنانين والعلماء بحالات من الجنون في حياتهم، بالرغم من قدراتهم العقلية الفائقة وإنتاجاتهم الإبداعية، بل إن بعضهم وصلت به الحال إلى وضع حد لحياته.

بين العبقرية والجنون شعرة

ترجع فكرة الربط بين الجنون والمبدعين إلى تاريخ طويل، فقد سبق لأرسطو أن طرح سؤال "لماذا كل الرجال البارزين في الفلسفة أو الشعر أو الفنون سوداويون؟"، وضرب أمثلة على ذلك بفلاسفة مثل هوميروس وسوفوكليس وإمبديوكليس، وأرّقت هذه الفكرة العصر الحديث، ما بين القرن الثامن عشر ومنتصف القرن العشرين،  حيث شاعت حالات المضطربين نفسيًا بين الفلاسفة والفنانين والشعراء  في هذه الفترة، ولا تزال هذه السمة نلحظها في الفترة المعاصرة عند بعض المبدعين، كما حدث مع نجم الروك الأمريكي تشيستر بينينغتون الذي أنهى حياته قبل أيام.

في الواقع لا توجد دراسات تؤكد أن كل العباقرة مصابون بحالات من الجنون

في الواقع لا توجد دراسات تؤكد أن كل العباقرة مصابون بحالات من الجنون، إذ أن شهرة الرائدين في الفن والفلسفة من المرجح أنها وراء شيوع فكرة الربط المطلق بين الجنون والعبقرية، بعكس الناس العوام الذين لا يلقوا نفس الاهتمام عند تعرضهم لاضطرابات عقلية، إلا أن هناك بالفعل حضورًا ملفتًا للاضطرابات النفسية لدى عباقرة الفن والفلسفة وبدرجة أقل العلماء.

اقرأ/ي أيضًا: لعنة كاساندرا.. طرق جانبية للحياة

وقد أجرى الطبيب النفسي فيليكس بوست في تسعينات القرن العشرين دراسة حول علاقة الجنون بالإبداع، استند فيه إلى سير 291 مبدعًا ومفكرًا استثنائيًّا، خلص فيه إلى أن معظمهم يعانون من مرض عقلي بدرجات متفاوتة، اعتمادًا على المعايير الحديثة للصحة النفسية، منهم أينشتاين ومايكل فارداي وداروين وباستير، و وبدرجات أكثر حدة مع فرانسيس غالتون.

ويقول أندرو روبنسون في كتابه "العبقرية" إن "العلاقة بين العبقرية والمرض العقلي أوضح من العلاقة بين العبقرية والذكاء المتقد، وأكثرها غموضًا في الوقت نفسه"، وذلك لأن العبقرية تشترك مع الجنون في عدة نقاط تقاطع، فكلاهما يسعيان لتجاوز الواقع الذي يطوقنا، وكلاهما يكسران قواعد المألوف التي نعرفها منذ نشأتنا، علاوة على أن شخصية العبقري والمجنون مختلفة عقليًا عن عامة المجتمع.

فكما يقول ميشيل فوكو "الجنون هو كسر المطلق"، إنه نوع من الخروج عن المألوف في نظر الفيلسوف الفرنسي، الذي يشبه الأعمال الفنية للمبدعين المتجاوزة للواقع التقليدي، وهو ما يجعل من الجنون والإبداع يبدوان كحالة شاذة أمام عيون المجتمع، فإذا كان المجنون يخترع لنفسه قواعد أخرى لا يفهمها الناس أو تتفق مع طريقتهم في التفكير والتصرف، فإن العبقري يسلك نفس الدرب ويحيد عن ما هو تقليدي إلى ما هو جديد، فقط أن الأخير يوظف خياله بطريقة أكثر قبولا اجتماعيا من المجنون.

وبالتالي فإن خيطًا رفيعًا يفصل بين العبقرية والجنون، وهو ما يفسر تعرض العديد من المبدعين الأفذاذ إلى اضطرابات نفسية كضريبة لاستعمال ملكاتهم العقلية بطريقة جنونية، أو كما قال مارسيليو فيتشينو: "إن السوداوية هي الثمن العيني الذي لا بد من دفعه كي تتمكن مساعي الروح البطولية من عبور الفجوة، التي لا يمكن عبورها بعقلانية، والتي تفصل بين الطبيعة المتناهية والزائلة والطبيعة الخارقة اللامتناهية الخالدة".

عباقرة لكن مجانين

يحتفظ التاريخ بسجل وافر من العباقرة المجانين، الذين لم تشفع لهم قدراتهم العقلية وإبداعاتهم الرائدة من أن يصابوا باضطرابات نفسية حادة، أدت ببعضهم إلى إنهاء حياته، فيما ظلت أعمالهم مستمرة إلى اليوم في إبهار ملايين العشاق لإنجازاتهم، وإلهام الكثير من المبدعين الآخرين.

أحد هؤلاء العباقرة المجانين جون فوربن ناش، عالم الرياضيات الشهير، الحائز على جائزة "نوبل" في الاقتصاد سنة 1966، والذي خلّد قصته فيلم "A Beautiful Mind"، عانى جون ناش منذ بداية شبابه من انفصام الشخصية الارتيابي أو فصام الاضطهاد وجنون العظمة، وبسبب ذلك دخل مرات عدة المصحة العقلية حيث كانت تنتابه هلوسات بصرية تنغص حياته وحياة عائلته، لكن في سنواته الأخيرة استطاع التعايش مع مرضه وتوفي في 2015 إثر حادثة سير.

يحتفظ التاريخ بسجل وافر من العباقرة المجانين، الذين لم تشفع لهم قدراتهم العقلية من أن يصابوا باضطرابات نفسية حادة

أما الرسام العبقري الشهير فنسنت فان غوخ فكان مريضًا عقليًا، وعانى من اكتئاب حاد، جعله يغرق في نوبات تدمير ذاتية، فقطع إحدى أذنيه مرة، ودخل بعدها المصحة العقلية، ثم أطلق النار على نفسه وهو في سن السابعة والثلاثين، وهي الفترة التي بلغ فيها أوج قدراته الإبداعية، لتصبح فيما بعد لوحاته الأشهر في عالم الفن، وقد تحير الدارسون في قدرة فان غوخ على جمعه بين المرض العقلي وإبداعه الاستثنائي.

اقرأ/ي أيضًا: غاستون باشلار وفرناندو بيسوا.. حياة حالمة في سبيل الإبداع

بينما واجه الكاتب إرنست همينغواي اضطرابات نفسية حادة في حياته، انتهت بإطلاق النار على نفسه، وهو الأديب الذي صارع الموت في الحرب الأهلية الإسبانية وقبلها في شواطئ النورماندي إبان الحرب العالمية الثانية، وقد فسّر الطبيب النفساني كريستوفر مارتين  انتحاره في دراسته "إرنست هيمنغواي: تشريح نفسي لعملية انتحار" إلى طفولته المضطربة مع والديه، الألم الذي حاول التغلب عليه من خلال قصصه وكتاباته.

لكن بالمقابل هناك عباقرة ومبدعون عاشوا حياتهم بصحة نفسية طبيعية، وهو ما يعني أن العلاقة العبقرية والجنون هي نسبية، ولا سيما في عصرنا اليوم، حيث يتوفر العلاج النفسي ويحظى المبدعون بالحرية والتقدير، خلافًا لما كان عليه الأمر في السابق، حين كان الفلاسفة والفنانون والكتاب يتعرضون للإهمال والازدراء والعنف من قبل مجتمعاتهم، بسبب أفكارهم الخارجة عن المألوف، فيعجزون عن الاندماج في بيئاتهم الاجتماعية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وحش "الكلام الفارغ".. أو لماذا صرت أخاف من الكتابة

سعيد خطيبي: الذات عينها كآخر