ما الذي يريده راهيم حسّاوي؟ يقول إنه ضدّ الكتابة ومع ذلك لا يتوّقف عن ممارستها. يعلن كراهيته التّامة والكاملة للحب، وفي الوقت نفسه لا يكف عن انتظاره. وفوق هذا كلّه لا يفوّت فرصة في الإشارة إلى تواضعه، رغم الإعلان الدائم عن كونه شخصًا عظيمًا.

طلبته إلى حوار صحافي فلبّاني على الفور، لكن ما إن فتحنا شاشة سكايب حتى دخلنا في شجار، كدنا بسببه نوقف المحادثة. لذا يمكن القول إن هذه المقابلة جاءت من صراخ، رغم أن الكتّاب، في العادة، يتحدثون من منطقة الهمس. 

حين وجدنا أننا في مأزق، لا نفهم على بعض، وكلّ منا يتحدّث في واد، توصلنا إلى أنْ يجيب على الأسئلة كتابة، ليمارس صراخه وشجاره مع الأوراق والكلمات، والغريب أن الإجابات التي أرسلها تقول إنه كان رائق المزاج والبال حين كتب إجاباته، ما من أثر لعنفٍ على الإطلاق، فحيّرني مرّة أخرى، ولهذا أترك سؤالي الأول لمن سيقرأ هذه الإجابات، لعله يساعدني في معرفة ما الذي يريده راهيم!

أعرف أنه رجل وحيد يقضي جلّ وقته في الخوف والتأمّل، وعلى من يُخرجه من قوقعته أن يتحمّل النتائج، وأعرف أن خشونته قناع سرعان ما يسقط أمام الحب، وبذاءته درع واقٍ سوف ينتزعه حين يشعر أنه يعيق حركة السير من وإلى داخله. لكنني فعلًا لا أعرف ما الذي يريده راهيم!


  • كيف جئت إلى الأدب. وما هو مصيرك لو لم يحدث الأدب في حياتك؟ 

لم أكنْ من أسرة تهتم بالأدب كما جرت العادة لمعظم الكتاب، ولم أكنْ قد قرأت الأدب أثناء دراستي، كنتُ شخصًا مفعمًا بالحياة والسرعة والضجيج، والبحث عن كل ما هو مثير على صعيد الحياة، كانت الحياة في نظري هي الحياة كما هي، ولكني لاحظت أن الآخرين لا يفسحون المجال لأحد بالتحدث، وعادةً يقوم أحد الأغبياء بأخذ دورك أو مقاطعتك، وذات مرة في المراهقة كنت مع أشخاص أكبر مني ومن ضمنهم ضابط معتز بنفسه، وكان الحديث حول أمر ما، وددتُ التحدث ولكن لم يتم افساح المجال لي، شعرتُ بالغبن حينها وذهبت إلى البيت وكتبتُ رأيي بالموضوع الذي كانوا يتحدثون عنه، ونتيجة التراكمات بدأت أخطُّ بعض الأشياء دون غاية أو هدف، وأثناء خدمتي في الجيش كنت أجلس تحت شجرة وقت الاستراحات وأخطّ كلمات عن والوحدة والوحشة، وتغيرات المرء أثناء الهجوم على الطعام، كنتُ مصدومًا بالحياة التي كنت أحبها كما كنتُ عليها فيما مضى، أحببتُ الحياة دون تشريح، فالتشريح صادم ومربك وعنيف. 

لو لم أدخل الأدب لكنتُ أي شيء يتعلق بسرعتي، فأنا سريع مثل الكهرباء، وحاد حتى في شرب الماء: مافيا، محقق، لاعب أو مدرب كرة قدم، أو مدرب شطرنج، أو جاسوس... وأي شيء يتعلق بالذكاء وسرعة البديهة والحركة. العزف على الساكسفون يحتاج لسرعة في الدم حتى لو كان اللحن بطيئًا، وهذا ما أقصده بالسرعة بمعناها الآخر، وأكثر ما أعنيه بمعنى السرعة هو أنّ الحياة بطيئة جدًا لدرجة الملل.

راهيم حسّاوي: الحقد ولادة، وكذلك الاحتقار، بينما الحب ركود ونوم و وقار

اقرأ/ي أيضًا: عارف حجّاوي: أخاف من الخائفين على اللغة العربية

  • خط يدكَ الجميل يجعلني أسألك هل تكتب نصوصك بالقلم الورقة؟

أحب الكتابة بالقلم على الورق، وأفعل هذا غالبًا، لكن الكتابة على الحاسوب وفّرت مسألة مهمة فيما يخص السيادة، فالورق مباح للغير، مثلًا قد يكتب المرء أشياء خاصة في ليلة يليها موته، هذا الورق سيكون لدى الآخرين، في حين أنّ الحاسوب يمنحك سيادة ما ترغب في ظهوره أو عدم ظهوره، وذلك بفضل الأرقام السرية الخاصة به وبملفاتك مثلًا، سواء كانت كتابة أو صورًا أو ذكرياتٍ أو مذكراتٍ أو حالات بوح بينك وبين نفسك. وهذا الكلام يقودنا إلى رسائل أنسي الحاج وكتابات كافكا مثلًا، وغير ذلك، فلو كانت هذه عبر حاسوب لما حصل عليها أي أحد، والرسائل التي كانت بيد غادة السمان وارد نشرها، ولكن ليس واردًا أنْ يقوم أحد بأخذ حاسوب أحد ما. على كل حال الأمر ليس بهذه الأهمية، لكنها وجهة نظر من العيار البسيط. ولكن ذات مرة قام أحدهم بسرقة حاسوبي، ولم يستطع فتحه ولا بيعه، واستطعت استرجاعه بفضل خطة محكمة، وعلى الهامش فلقد كانت فيه صور حبيباتي الجميلات وهنّ عاريات وشبه عاريات، فلو كانت هذه الصور في ألبوم صور ورقي لكان الأمر مربكًا، وبطبيعة الحال العالم كله يتجه نحو الأقفال والأرقام السرية، ولو كان الأمر ممكنًا لوضع المرء لنفسه رقمًا سريًا أمام كل ما يخشاه.

  • هل لديك حكاية في هذه الحياة؟

ولدتُ يوم الثلاثاء وهذا كل ما في الأمر.

  • لماذا نراك حاقدًا طوال الوقت؟ أهو طبعٌ أم ردة فعل؟ 

الحقد ولادة، وكذلك الاحتقار، بينما الحب ركود ونوم و وقار. أستطيع أنْ أكون راضيًا ومسالمًا ولبقًا وجميلًا، ولكن ما الجدوى أنْ تكون أنانيًا بصفاتك الحلوة! حتى أني أحتقر الذين يبذلون جهدًا جبارًا لنيل وكسب محبة الآخرين، ثمة شيء في الحياة يقودك إلى أبعد مما أنت عليه، شيء يقودك لفتح نافذة على الجميع كي  تتذمر وتمضي وقتًا حسنًا، حتى لو كان لديك حبيبة ومليون دولار، يجب أنْ تُعاش الحياة باحتقار كي لا نبدو أمامها كسالى ومهزومين، علمًا أنّ الحياة تقوم بمهتمها على أكمل وجه. 

راهيم حسّاوي: أحتقر الذين يبذلون جهدًا جبارًا لنيل وكسب محبة الآخرين

أمّا فيما يخص ردة الفعل فإنني غالبًا أباغت نفسي في ذلك كي أخرج من سياق السيناريو المُحتمل، قد أقدم الورد لشخص يكرهني بتردد، أو ربما أشتمه، أفعل ذلك كي أساعده على تقرير مصيره اتجاهي، وكي أُخلصه من التردد سلبًا أو إيجابًا.

اقرأ/ي أيضًا: اعترافات نجيب محفوظ في حوار مجهول

  • عشت في ثلاثة من قطّاعات اللجوء السوري؛ مصر ولبنان وتركيا. ماذا تعلمت من خلال هذا التجوال؟

بدايةً في تركيا تعلمتُ كيف أكون بعيدًا عن أمي، ثم غادرتُ إلى القاهرة وتعلمت أنّ المرء يبقى كما هو وسط الزحام، ولا شيء يمكنه أنْ يمحو عالمك الداخلي حتى لو كنتَ وسط كثافة سكانية هائلة في وضح النهار، وعدتُ إلى تركيا ومن ثم إلى بيروت، وفي بيروت تعلمتُ الفارق الكبير بين الليل والنهار، وغادرتها إلى تركيا من جديد، وربما سأغادر إلى ألمانيا قريبًا كي أتعلم منها قضم تفاحة في الصباح وإعادة محفظة ضائعة لأصحابها (هذه دعابة)، لكن في حقيقة الأمر ربما أتعلم منها كيف يمكن للمرء أنْ يكون في البعيد البعيد عن مسقط رأسه، وربما أتعلم منها كيف يمكن للمرء أنْ يبدأ الحياة من جديد وهو بحجم الدب. 

  • لماذا تبدو شخصًا عاطلًا عن كل شيء، بل إنك تبدو عاطلًا عن الحياة نفسها؟ 

لستُ عاطلاً عن العمل بالمعنى الحرفي، لكن أعمالي غير مكتملة من حيث البدء أو من حيث الإنهاء، وربما من حيث ما بين البدء والإنهاء، مع أنّ البدء دومًا أجمل ما في الأشياء ويكاد يلخصها وينهيها، أفعل هذا لأني غير مؤمن بحقيقة الفعل الكامل، ومعظم الأفعال مشوَّهة أو غير ممتعة، فالتفكير في نزهة قد يبدو فعلًا مشوهاً حين تدرك أنها مرتبطة في الطقس والمال والأشخاص والمزاج، لذلك عبَّرت عن هذا الشيء في مطلع رواية "الشاهدات رأسًا على عقب" أنّ التبول أسهل ما يمكن للمرء فعله، وهو يكاد يكون مضمون النتائج، وكذلك الأمر في نهاية مسرحية "الرخام" أنّ قص الأظافر بالقصاصة أسهل من كل الأفعال التي كانت تقوم بها شخصيات المسرحية، وأكثر جدوى من حيث النتيجة المؤكدة.

  • في السوشيال ميديا هناك حملات أقيمت لأجلك مثل "لا حدا يزعّل راهيم"، وهناك فيديوهات سجّلها كثيرون في عيد ميلادك.. لكنك في الوقت نفسه لست نجم سوشيال ميديا، ما سبب هذا التناقض؟ 

فئة تحبني بكثافة على قلتها، وفئة مترددة، وفئة كبيرة لا تطيق وجودي ويسعدها جدًا لو أصاب بالزّكام مثلًا، ويسعدني وجود هذه الفئة على قيد الحياة وهم بصحة جيدة، فهم دعابة الحياة المجانية بالنسبة إلي، لذلك السوشيال ميديا تحتاج للكمية ولا تحتاج للكيفية.

راهيم حسّاوي: أتعلم كيف يمكن للمرء أنْ يبدأ الحياة من جديد وهو بحجم الدب

  • * أنت من عشّاق الشعر، لماذا لم تكتبه؟ 

من حسن حظي لستُ مُخرجًا سينمائيًا أو شاعرًا، الشعر والسينما أرق الأشياء وأكثرها جنونًا وجموحًا، وعقلي الصغير لا يحتملهما، لذلك أحبهما دون التورط بهما.

اقرأ/ي أيضًا: بشار إبراهيم.. الأمل معلّق بالسينما المستقلة

  • في روايتك "الشاهدات رأسًا على عقب" طرحت موضوعة الانتحار، وفي روايتك الجديدة "الباندا" (تصدر قريبًا) طرحت عدة مواضيع من أبرزها نوبل للسلام. كيف تختار مواضيعك؟ 

أختار المواضيع التي تؤلمني، الانتحار مؤلم، وحتى اللحظة لم يستطع العالم الوقوف بشكل جدي من قضية الانتحار، وفتح ملفاتها لمعرفة المتورطين بطريقة أو بأخرى بشخص قد انتحر، كل شخص منتحر ثمة وراءه شخص أو أشخاص قد دفعوه لفعل هذا بطريقة تراكمية، وفي أسوأ الأحوال ثمة هناك من تقع على عاتقهم مسؤولية أخلاقية في منع شخص ما مقبل على الانتحار، الناس فقط يكتفون في الفُرجة والذاكرة بعد انتحار شخص ما، في حين تراهم كالعميان في ملاحظة شخص مقبل على الانتحار. 

في "الباندا"، تدور الأحداث من الستينيات حتى سنة 1998 في دمشق وبيروت وباريس، ضمن علاقات متداخلة في الحب والفلسفة والمصائر، ولكن العمود الفقري للرواية يدور حول تلك الترهة التي تدعى "نوبل للسلام"، والأشخاص الذين ينالونها على حساب مليارات البشر، وكأنّ هذه المليارات عبارة عن حيوانات ودون مستوى صفة البشر، والمضحك أنّ القائمين على الجائزة لا يعرفون أي شيء عن شخص اسمه "س"، وهو مقيم في أستراليا مثلاً، والمؤسف أنّ هناك بعض الأصوات الغبية التي تنادي بضرورة منح الجائزة لفلان وضرورة عدم منحها لفلان، وأنّ فلان لا يستحقها بينما فلان يستحقها، والجائزة عبارة عن فح مبتذل وانتقاص من قيمة البشر وراء الكواليس، وفي الظلام ووراء قسوة الحياة، بينما كل الذين ينالون "نوبل للسلام" هم تحت الأضواء منذ البداية.

راهيم حسّاوي: كل شخص منتحر، ثمة أشخاص قد دفعوه لفعل هذا بطريقة تراكمية

اقرأ/ي أيضًا: نبيل الملحم: أغار من عبد الباسط الساروت

  • لماذا تركّز كثيرًا على علم النفس؟ ومن أين جاء اهتمامك به؟

في بعض الأحيان أقول إنّ أسوأ ما عرفته هو علم النفس، وليتني كنتُ أميًّا به، علم النفس هو قتل الحياة الدرامية للحياة بحلوها ومرها، جاء اهتمامي به منذ 1998 وبشكل مفاجيء، حين تسألتُ ذات مساء "ما هذا؟"، أقصد الكون والحياة، وكان السؤال مذهلًا ومربكًا لي، دخلت في غيبوبة على إثرها لمدة عشرين يومًا تقريبًا، وفقدت بصري بعد أيام لمدة يوم ونصف اليوم تقريبًا، نتيجة عطل بين الدماغ والعصب البصري من هول الاضطراب المفاجئ الذي حدث للدماغ، لم أكن فاقدًا للوعي ولكني كنتُ في العدم طوال هذه الفترة، ولم يسبق لي من قبل أنْ فكرتُ بقضايا الوجود، لذلك كان السؤال ثقيلًا، وخاصةً أني كنتُ شخصًا لاهيًا وعابثًا وغير مكترث للحياة، بل كنت أعيشها كما هي، والآن أعيشها كما أراها برؤية جديدة. وبعد ذلك صار اهتمامي به من خلال طبيعة الحياة التي أراها من جديد، فكل فعل وكل شعور وكل تأمل يقودني نحو النفس بطريقة أو بأخرى، ومؤخرًا توصلت إلى أنّ الجنون هو التفكير في العقل بينما العقلانية هي التفكير بالعقل.

في نهاية حديثي أشكرك على هذه المساحة من اللغة، بعيدًا عن صخب السكايب وجهًا لوجه، فلقد تمنيتُ لحظتها أنْ ينقطع التيار الكهربائي أو أنْ يغور الإنترنت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تيسير خلف.. تدمر أكبر من مجرد آثار

محمد الدخاخني.. لا لانعزالية الثقافة