بعد أن خرج نوار من المنزل في الصباح الباكر، دون التفوه بكلمة واحدة لوداعها، نهضت سلمى من السرير وتوجهت إلى المطبخ، حضّرت القهوة، وذهبت بها إلى النافذة. جلست على كرسي خشبي قديم صدئ المسامير، رمقت بطاقتي السفر على الطاولة المربعة الصغيرة أمامها، وحقيبةَ السفر الزرقاء التي وضعتها قرب البابِ البارحةَ، ثم أشاحت وجهها عنهما، ونظرت إلى السماء الرمادية المغطاة بسحاب كثيف.

ارتشفت القهوة السادة بصعوبة، وكأن لوزتيها تورمتا فجأة، إذ إن عبورَها غير الشرعي من روسيا إلى النرويج اليومَ، عبر ممرِ مورمانسك طلبًا للجوء الإنساني، يجعلها تقف على نقطة في نهاية فصل بأكمله، ولدخول الفصل التالي لا بد من إسدال الستارة على علاقتها بنوار نهائيًا. ففي الأسبوع الفائت، وبعد شجار وجدال طويل، أخبرها "إن اخترت طريقك فسيري فيه دون رجعة"، ومذ ذاك الحين لم يتبادلا الحديث.

بيد أن سلمى حتى هذه اللحظة تأملُ عودتَه عن قراره، وتوضيبَ أغراضه، والسفرَ معها. كانت تتساءل، وعيناها تراقبان الضباب الذي بدأ يهبط على القرية، كيف للأعوام والذكريات، للأمكنة، للهواء، للحب، للعناقات، للألم والنشوة، للعري وكل تلك الأشياء التي تشاركانها، ألا تفرض نفسها في أحرج اللحظات، بل تصير فقاعة صابون، تطير ثم تتلاشى.

ارتشفت ما تبقى من القهوة بالطحل، ونظرت إلى طفلها الصغير الذي دخل الصالون، باكياً.

*

عندما فتح نوار باب الدار الحديدي، لم يكُ يعلم وجهته، غير أنه وجد نفسه في الغابة القريبة من القرية فولجها، ورغم الهدوء الذي يبديه، إلا أن الغيظَ كان في دمه يشتعل كالحشائش اليابسة، مختنقًا بدخانها العائم تحت السطح. تكرارُه لسلمى بقائه في القرية، أدى إلى قرارها بالرحيل عنه، فليس بمقدوره تأمين ما هو أفضلُ من هذا البيت الريفي المتواضع، لكن سلمى ترغب في العثور على مكان أفضلَ لطفلها الوحيد، ودراسة أفضل، وخدمات طبية أفضل، أي مستقبل أمْثَل، وكل ذلك لا يتوفر حيث يقطنان، كما أنها لا تطيق الريف ونهارات الصيف الطويلة المملة، تلك الحقول الواسعة والمساحات الممتدة تُخيفها، وتُشعرها كأنها غير مرئية.

شرع نوار يقطف التوت البري، ومع توغله في الغابة أكثر تأمل جنبات المكان. عبر فرجة سماوية، وجدت الشمس لها ممراتِ عبورٍ بين أغصان الأكاسيا فسكبت عصائر الذهب في بواتق متباعدة، الأوراق الهرمة تصطفق بهبات النسيم المشبع بعطر الغابة وتتساقط كزوارق تشق موج الضوء، ثم ترسو بسكينة في ميناء حتفها. ارتفعت أصوات عصافير من أعشاشها، وزادت حدتها باتكائه على شجرة عملاقة، أشعل سيجارة ونفث الدخان.

"إنه لمعبدٌ بحق" فكر نوار.

*

حادثتان جعلتهما يتخذان قرار الخروج من سوريا في منتصف عام 2012. أولاهما حين اختيرت سلمى ضمن لجنة للكشف عن أجهزة جديدة مشتراة في مناقصة، فوقفت حجر عثرة في طريق المشروع، ورفضت التوقيع على استلام الأجهزة المخالفة لشروط المناقصة، بالرغم من كل الرِشا التي عرضها عليها مدير اللجنة. وذات يوم، تلقت مكالمة من شخص مجهول، أخبرها بأنها إن لم توقع على المناقصة سيدهسها بسيارته، ففضلت تقديم استقالتها. 

وثانيهما، عندما كان يجلس نوار يرتشف الشايَ في شرفة شقته في ضاحية قدسيا، المطلة على منطقة تدعى "الهامة"، شاهد مجموعة من الأشخاص في باحة ملعب المدرسة، يرتدون الزي المدني ويحملون أسلحة خفيفة، كانوا يحومون كالذباب الأزرق حول مدفع هاون، وإذا بأحدهم يحرك القاعدة بقدمه، والآخر يمد الفوهة بالقذائف لتنطلق نحو الهامة، فوق حارات وسطوح منازل السكان المدنيين. أثارت فيه حركة القدم العشوائية في القتل رعباً دفيناً، وخوفًا هائلًا تفجر دفعة واحدة من العمق إلى السطح. أحسَّ كمراقب للمشهد، بالقدم ذاتها تطبق على صدره لتحطم عظام قفصه الصدري، وتغور عميقاً في قلبه. اتفق الزوجان على الخروج بسرعة من البلاد، لكنهما اختلفا على وجهتهما.

*

انتقلا إلى قرية صغيرة في شمال القفقاس، وجد نوار نفسه وحيداً، يدافع عن قراراته ووجهات نظره، لقد تقبل فكرة العمل بالأرض، ولكنه فشل في إقناع سلمى بذلك، كانت تأمل عودة الأوضاع في سوريا إلى ما كانت عليه، بل أحسنُ. أما نوار فكان يؤمن بأن الاحتراب سيطول حتمًا، ولاسيما بعد تسليح المعارضة، وبأقل تقدير، لن يتفاوض الطرفان إلا متى صارت البلاد أطلالًا، عدا أن نتائج كثيرة للحرب لا يمكن التنبؤ بها أحياناً، لذا شعر بنفسه كمنشفة معلقة من طرف واحد على حبل غسيل، عرضة لمناخات سلمى وطقوسها المتغيرة كافة.

من جانب آخر، آنست الأرضُ نوارًا، كائنٌ مختلفٌ ظهر على السطح، وكان يعجبه، بسيط وهادئ، لقد أدرك غير ذات مرة، وعلى إثر الموت المجاني في سوريا، بالرفاهية في قدرته على سحب أنفاس باردة عميقة تحت شجرة الكرز في الدار، حينما يحتسيان القهوة، وطفلهما يعدو وراء السحالي لالتقاطها، دون خوفٍ من سقوط قذيفة عشوائية فوق رؤوسهم.  

وكان أشد ما يثير حنقه أن سلمى لا تتفهم علاقته بالأرض، الأرض التي تعيده إلى وعيه الآني، وعيه الذاتي، ووعيه بالعالم من حوله وعلاقته الخاصة بها. التربةُ ما إن يطأها ويمد يده إليها تسحبه إلى كينونته، تنظفه، تصقله، تغسله، تقلبه، تفرغه وتملؤه، شعر بها أحيانًا كامرأةٍ تحتويه بكليته، بنقائصه، وتعطيه دون مِنّة. كثيرةٌ هي دواخله التي عادت إلى طبيعتها مؤخرًا، بعيدًا عن فردانية الأشخاص العاملين في المكاتب المغلقة، بعيداً عن تضخم ذواتهم، عن أناهم المنفوخة كمناطيد هائلة، لقد امتلك القدرة على التعامل والعمل الجماعي ببساطة، دون الحاجة إلى التملق أو التزلف المقيتين.

*

هبط الضباب أثناء عودته، كان على يقين أنه يسير في الاتجاه الصحيح، لكنه لم يجد أي منفذ للخروج من الغابة بعد، مضى الوقت وهو غارقٌ في التفكير بشؤونه الخاصة، وفي تحليلها وجمعها ومحاولة تفسيرها. وما إن استفحل الضباب، وأصبح عاجزًا عن تحديد الجهات، جلس على جذع شجرة، وأشعل سيجارة بعد أخرى، أغمض عينيه، فسمع صوتًا بعيدًا، ارتبك قليلًا، ثم صار الصوت أقربَ، وكأنه طفقٌ أو خفقٌ، شعر به يخرج أيضًا من خلجات قلبه، لكنه شاهد طائرًا كبيرًا يحط على غصن أمامه. بومةٌ بيضاءُ كالثلج، أرخت جناحيها الكبيرين بتؤدة، ونظرت باتجاه نوار المبهور بها، تسمر وحدق في عينيها الصفراوين اللتين تبتلعانه.

زعقت البومة، وكأنها أعطت إشارةً لأسراب النمل الأسود بالخروج من كل مكان، اتجهت نحوه، لم يقوَ على الحراك، كان موثقًا بقوة ما أذعن طواعية لها، طوقته جموع وصعدت فوقه، شعر بدبيب أرجلها فوق جسده، ارتفعت حتى قمة رأسه وغطته بالكامل، سحبت عنه أرديته وأقنعته وزحفت مبتعدة، قوضت أفواج أخرى ستائر الغباش المثقلة بحدة انفعالاته، وانتزعت أفواج أخرى أصواتًا وظلالًا وأشباحًا طيّارة في معابدَ متداعية، ثم ارتقته جموع أخيرة ورفعت عنه أحجارًا وأصنامًا ثقيلة جاثمة في بئر عميقة.

أحس نوار بالخفة وبحواسه منتبهة متحفزة، راقبها جميعاً تغادر فوق ظهور النمل كصور باهتة وكئيبة، كمرايا قاتمة محدبة ومقعرة، وقف في هذه النقطة من الكون، أشبه بشجرة خلعت عنها قشورها وطبقات لحائها الكثيرة واليابسة، ووجد النسغَ فيه كريستاليًا نقيًا يحوي في جوهره أحدَ وجوه الحقيقة، ويعكسُ في داخله مرآة للكون.

طار البوم عاليًا. فتح نوار عينيه، ورفع رأسه إلى ذرى الأشجار المائلة، وبها قدَّر جهة الشمال.

*

سار مجددًا حتى ظهرت أشجار تفاح مثمرة، فأيقن قربه من منطقة سكنية، وما إن نزل المرتفع حتى شاهد رجلًا على البعد، اقترب منه وسأله عن اسم تلك المنطقة، فعرف أنه في الطرف الغربي من قريته.

استقل باصًا للعودة، وطوال الطريق كان نوار مرتبكًا، تؤرقه مسألة واحدة: أيجد نورَ المنزل مضاءً أم لا؟!

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكان بارد جدًّا

سيرة نصّ قبل الكتابة