17-نوفمبر-2015

امرأة في ساحة بلاس دو لا ريبابليك في باريس (Getty)

في 2009، كنتُ في بعثة في إسبانيا لمدرسة المترجمين في توليدو، فتاة مسلمة تربّت في مدارس الراهبات على أن الله ليس حكرًا على أحد، وعلى أن تصحح الراهبة ماري روز قراءة الفاتحة والقرآن للفتيات حين يخطئن في التلاوة في البرنامج الصباحي. كانت رفيقتي جريس تتركني أتمشى معها حتى الكنيسة المجاورة، وتتركني أراقب طقوس العبادة بينما تعترف للأب توماس بخطاياها.

ورثت من جدتي أن أقرأ دواخل الناس من وجوهم، وورثت منها أن أرى ما سيحدث بقلبي

ورثت من جدتي أن أقرأ دواخل الناس من وجوهم، وورثت منها أن أرى ما سيحدث بقلبي. رأيت الراحلين يستعدونني وأعتذر، وحين هرعت إلى جدتي أحكي لها كانت تقول: "لم يحن موعدكِ بعد" ولا زلت من يومها أنتظر. تستدعيني هذه الحكايات في خط زمني ليس مستقيمًا. أذكر أني كنت ساخطة على أمان العالم وحركته الرتيبة في أول ليلة لجدتي تحت التراب. كيف كانت تخمش حيوانات الشوارع وجوهها لتزيل أثر النعاس، وتعلق الكلاب جروحًا أصابتها من معاركها الليلية، ويذهب الناس إلى أعمالهم في الصباح، بينما توقف الزمن بي عند جدتي وهي راقدة في سريرها وأن أطرح الأسئلة على الموت سؤالًا بعد آخر: لماذا يصمت الموتى إلى الأبد؟ لماذا لا يخبروننا بما يرون؟ لماذا يذهبون ويعودون في برازخ الحياة والموت؟ ألأن لا مكان لهم في الاثنين؟ ألأن المخفي عظيم؟ أم لا شيء إطلاقًا.

في كل مرة يُجَن العالم، ينفجر فيه الموت مباغتًا، كثيفًا، تقف السماء بلا تدخل أتساءل: لماذا؟ لماذا لا تشغل العالم صور الموت اليومي في منطقتنا المنكوبة، ويكتفي بالإشارة إليه في شريط أخبار نزق يقرأه المتابع على عجل؟ لماذا دخل الموت وصوره في أعمال الدعاية والتجارة ودفع الفواتير؟ ربما كل ما يحدث منطقي وأنا التي لا تريد أن تفهم أن موت الإنسان الأبيض الآمن في بلاده خسة وعار تستدعي كل عقد الذنب لدينا. وتستدعي الاعتذار، والدفاع عن الإسلام.. إلخ.. إلخ.

قتل الأبرياء جريمة في أي دين، فلماذا يجب أن نوصل للعالم أننا "بالذات" ندينه؟ ونمنح خدنا الأيمن لتصفعه وسائل إعلام يمينية متطرفة محرضة، تعتبر أن مصدر بطولاتها إدانة جمع من الناس يهربون أصلًا من القتل بالانتحار في البحر؟ ولماذا يجب في كل مرة أن ننتظر من يده الكريمة تفهمًا يمنه على مسامعنا بأنه لا علاقة للجوء كحق إنساني بضرورة وجود الإرهاب بين أظهر الناس؟ ومتى سنعفي أنفسنا من تهمة أن العرب والمسلمين أصل البلاء في العالم، وكأننا نعيش فيه وحدنا، رغم أنه لو كان الأمر كذلك لأفنينا أنفسنا وحرمنا البشرية شرف الاطلاع على عورات حروبنا الأهلية مع طغاة يديرون المنطقة بالاتفاق مع الكبار على الضفة الأخرى. الإدانة لا يجب أن ترتبط في وعي أي حد في العالم بدين أو عرق أو جنس أو لغة أو حضارة.. ممل هذا الكلام لكن تكراره مفيد للصحة وللذاكرة.

لي صديقة فقدت زوجها الأمريكي في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في الولايات المتحدة. هي ملحدة وهو أمريكي مسلم. تذكر لي تفاصيل إصابتها بأمراض شتى لدى اشتراكها في مساعدة المنكوبين وحمل الجثث المتفحمة. تذكر لي وهي تطقطق أسنانها في كل لحظة نجلس فيها صامتتين أن طقطقة الأسنان تلك تصيبها بصداع لا يمكن حتى تسكينه منذ سنوات. تذكر لي أنها أحبت زوجها وكانت تتمنى الإنجاب منه.

أذكر أني حكيت تلك القصة لصديقة فكان جوابها: جيد أنها لم تفعل، كانا ليكونا ملحدين مثلها. لم أصفها وقتها بلفظ ناب ولم أصفعها، فقط منحني ردّ هذه البنت، نفقًا مظلمًا طويلًا أتفهم خلاله كيف ستكون السنوات التي ستتلو حدثًا كهذا. مع الأسف سيكون لقب لاجىء صفة كافية لجعلك متهمًا بطبيعة الحال. سندفع جميعا فاتورة الأفكار التي تطورت وتشعبت وتوغلت وأدت برد كالذي قالته تلك البنت التي كنت أحكي لها مأساة صديقتي. مخيلة الشيطان تبدع كل يوم مأساة جديدة.. كل يوم. 

اقرأ/ي أيضًا:

حسام بهجت.. التهمة: صحفي

رفح المصرية والدرس الموريسكي