12-ديسمبر-2015

منازل مدمرة في البيضاء، وسط اليمن، 1963 (Getty)

ثمانينيات القرن الماضي، عُرفت عَدَن، عاصمة الجنوبِ اليمنيَّ، عاصمةً لليساريين العرب؛ بعضهم أتاها زائرًا، وبعضهم مستجيرًا، فكانت صدرًا رحِبًا، وساعدين مفتوحين لاحتضان القادمين. في الأربعينيات، كانت عدن، شبه الخالية قبل قرنٍ من ذلك الحين، ولطبيعتها كمدينة "ترانزيت"، ومستعمرة بريطانية، مأهولَةٌ بـ"أبناء الإمبراطوريَّة"، من مختلف الجنسيات وبامتداد التاج البريطانيّ، من الهند وحتى أفريقيا وأوروبا.

بانضواء الفصائل الجنوبية في "الحزب الاشتراكي اليمني"، أواخر السبعينيات، اكتمل سياج الدولة الجنوبية الموحدة،

الريفيون القادِمون من وسط اليمن، المحسوب على الشمال، بحثًا عن الرزق، ومن تعز تحديدًا، شكلوا جزءًا من ديموغرافيَّة المدينة المفتوحة، ورُغم الترابُط الشرطي بين "عدن، وتعز"، إلا أن هؤلاء لم يكونوا مشمولين بالرعاية البريطانية، فلا هم من أبناء المستعمرات، ولم يناطوا باتفاقات. اشتغالهم في الحرف والتجارَة، مكن هؤلاء "المنبوذين" بريطانيًا، من صناعَة وجهٍ آخرَ لَعَدَن، مُغايرٍ لثنائية الكادحين والأرستقراطية الطفيلية، ساهم البرجوازيون الصغار، في إنشاء أندية وجمعيات حملت أكثرها أسماءَ قُراهم، ودعمت أنشطتها التعليم والفنّ والأفكار التقدميَّة، فأنشأت المدارس والكليات والمرافق، وابتعثت أبناءها للدراسة، وتفاعَلَت مع القضايا القومية، وشعاراتها الثوريَّة، فأصبح للمنبوذين صوت ونفوذ.

ساهم الوعي القادِم من عدن، بتفجير ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962 في "اليمن الشمالي"، مناضلون جنوبيون قاتلوا إلى جانب الثورة، في 14 تشرين الأول/أكتوبر 1963، انفجرت الثورة في الجنوب، وكانت تعز، عاصمة الشمال آنذاك، معقل قيادة عمليات الكفاح المسلح في الجنوب، حتى جلاء آخر جندي بريطاني في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1967.

تولى قحطان الشعبي، مستشار رئيس اليمن الشمالي، وقائد الجبهة القوميَّة، رئاسة اليمن الجنوبي، وبعد حربٍ مريرة مع جبهة التحرير، شركاء الكفاح المُسلح، استتب الأمر للجبهة القوميَّة. غير أن صراعًا آخر نَشَب داخل الجبهة، بين تيارين، أحدهما "محافظ" بقيادة الشعبي، والآخر "شيوعي" بقيادة عبد الفتاح إسماعيل، انتهى الصراع لصالح الأخير، وصعود سالم ربيع علي رئيسًا للجنوب، وثلاثتهم ينتمون للأرياف القريبة لعَدن. 

بانضواء الفصائل الجنوبية في ما أصبح "الحزب الاشتراكي اليمني"، أواخر السبعينيات، اكتمل سياج الدولة الجنوبية الموحدة، المحكومة بنظام شموليّ "قوي"، بدعم المُعسكر الشرقي، فشكلت عدن الوطن البديل للهاربين من الاستبداد والملاحقة. إلغاء السلطنات، وتوحيدها في إطار الدولة، وإلغاء الامتيازات الطبقيَّة، والحثّ نحو الحداثة، وحرية المرأة، والعدالة الاجتماعيَّة، واحترام القانون، إنجازاتُ حسبت للنظام، غيرَ أنَّها وتعاضدًا مع سلطة الاستخبارات خلفت مضاعفات كارثيَّة على الجنوب لاحقًا.

ساهمت "دكتاتوريَّة البروليتارية" في تشكيل نخب حاكمة ناقصة الوعي، ما وضع البلاد رهينة لاعتباط قادته

لقد ساهمت "دكتاتوريَّة البروليتارية" في تشكيل نخب حاكمة متسلحة بالأيديولوجيا، ناقصة الوعي، ما وضع البلاد رهينة لاعتباط قادتها، وتسببت قرارات التأميم وقانون الملكيَّة، بتدهور كبير في الاقتصاد، أداه إفلاس ورحيل رأس المال الوطني، وكرست نمطًا متواكلًا وفاقدًا للطموح داخل المجتمع.

نزوع النظام الحداثي، وتشجيعه على تحرر المرأة، والحريات الاجتماعيَّة، لم يتجاوز العاصمة عدن، المتأثرة بليبرالية الاستعمار، فيما ظلت المحافظات المحرومة على حالها، بعيدةً عن حداثة النظام وعاصمته، كما عززت الرومانسية الأيديولوجيَّة المتجاوزة للواقع الوطني بالتظافر مع السحنة السوفييتية للنظام البوليسي القمعي في الجنوب، ثقافة الخوف والتخوين وغياب الثقة، وضمور الشعور بالتضامن. تلك العوامل وغيرها، مدعومة بصراعات الساسة، فجرت أحداث 13 كانون الثاني/يناير 1986، والتي قتل فيها قادة كبار في الحزب والدولة، وأدت لحرب مناطقية، وتصفيات على الهوية، شملت الآلاف خلال أيام معدودة، استطاع الحزب إخمادها، لكن آثارها حفرت عميقًا. 

مع انهيار المنظومة السوفيتية، قامت الوحدة بين شطري اليمن، الشمالي والجنوبي، نظرًا لاختلاف طبيعة النظامين والشعبين، وتفاقم الاحتقان بين ممثلي الشطرين، اندلعت حرب الانفصال في أيار/مايو 1994، وانتهت في 7 تموز/يوليو من نفس العام، بدخول قوات "الشرعية" إلى عدن، برئاسة صالح المدعوم من الإسلاميين والقبائل، في الشمال، والمنفيين الجنوبيين من أعداء الحزب، أو المتضررين من سياساته.

أثمرت الهزيمة عن طُغيان فلسفة الحُكم في الشمال على الجنوب، استولت النخبة المنتصرة على كل شيء تقريبًا، أصبحت عشرات الآلاف من الهكتارات التي كانت ملكًا للدولة في الجنوب، ملكًا لأشخاص من النخبة الشمالية المنتصرة، ناهيك عن استبعاد عشرات الآلاف من الجنوبيين عسكريين ومدنيين من مواقعهم الوظيفية بالفصل أو الإحالة للتقاعد أو بخلاف ذلك.

إلى ذلك، عاثت مراكز النفوذ الشمالية، خرابًا في الجنوب، فنهبت الممتلكات العامة والخاصة، بما فيها أصول الشركات الكبرى والمال العام، ومارست مختلف أشكال الفساد المالي والإداري والأخلاقي، واستبدت بعنجهية القوة على المواطنين البسطاء.

رغم تعاطف "الوسط"، تعز وإب تحديدًا، مع مظالم الجنوب، إلا أن موقفه كان سلبيًّا بفعل هيمنة الشمال

في 2007، بدأ نشاط ما سُمي لاحقًا بـ "الحراك الجنوبي"، عبر تظاهرات مطلبية قادها متقاعدون عسكريون، أدى تجاهل النظام إلى توسعها، وسط دعواتٍ بـ "إصلاح مسار الوحدة" مهَّدت لما أصبح لاحقًا "المُطالبة بفك الارتباط عن الشمال"، أو ما يُعرف اختصارًا بـ "الانفصال". رغم تعاطف "الوسط"، تعز وإب تحديدًا، مع مظالم الجنوب، إلا أن موقفه كان سلبيًّا بفعل هيمنة الشمال، ومخاوفه تجاه الوحدة، فلم يفهم "الوسط" مشكلة الجنوب التي كانت أعمق من تصوره. لكنه وللغرابة ظلَّ أمام مدفع الخصومة الجنوبي، مستهدفًا رئيسيًا بالسُّخط والشجب والانتهاكات.

ولعل انسلاخ الوسط، من متلازمة الجنوب "شعبٌ يعيش على الدولة"، وتكيفه مع نقيضتها في الشمال "دولة تعيشُ على الشعب"، وتكيفهم مع استئثار نخبة الشمال على الخيرات المادية للبلاد، عبر استحداث بدائل اقتصادية قللت اعتمادهم على الدولة، وساعدت على إيجاد فرصهم شمالًا وجنوبًا، قد أشعر قطاعاتٍ جنوبية بالظلم، والمنافسة "المرفوضة".

لقد أسس هذا المفهوم لدى قطاعاتٍ في الجنوب، اعتقادًا ظنيًا خفيًا، مفادُهُ أن الدولة ملكٌ إثنيّ، وقاربَ بمظاهرهِ المُتمثلة في ازدياد الانتهاكات العُنصريَّة، واحتكار الأحقية بما في الجنوب، ونبذ حقوق الشراكة وقيم المواطنة، وغيرها من الممارسات بحق الشغيلة من أبناء الوسط في الجنوب، وعي النُّخبة المنتصرة في 1994، والتي تختلفُ نسبيًا نظرًا لطبيعتها المُهيمنة، في استخدام هؤلاء لمنافعها كـ "سُخرة".

يصف البعض هذا المنحى الخطير بـ"التماهي مع ثقافة المنتصر"، أو "المُغتصب"، لكن الأمانة تقتضي، أن يُقرأ تاريخ الجنُوبُ المُعاصر، بوعيٍّ متجرد وعميق، لنصل -على الأقل- لفهم أن جَنابَة الجنُوب الذي كان طُهرانيًا في حكايات الأجداد وقصائد الرفاق، لم يكُن سببها مُغتصبٌ وحيد، بل طابور مغتصبين: للوعي والإنسانية والأخلاق والمادة.

اقرأ/ي أيضًا:

إبراهيم الحمدي.. الزعيم الأسطورة

الفناء للعالم.. الخلود لتعز..!