ليس تشارلز سيميك (1938) أحد هؤلاء الشعراء الذين يفضلون السير بمحاذاة الخطوط الآمنة، فالمغامرة وحدها تضمن لك المتعة الشعرية. أمضى سيميك سنواته الأولى في بلغراد، التي تزامنت مع أحداث الحرب العالمية الثانية، لذا سنجد أن شريحة واسعة من قصائده تتمحور حول ما تركته الحروب من تشتت ومرارة على شعوبها. 

تشارلز سيميك: الرّوح صندوق موسيقى/ تدور فيه أغاني العصر الذهبيّ/ في السماء/ منتثرةً مع النجوم

والحرب عند سيميك ليست حدثًا تاريخيًا فحسب، إنما باب خلفي للدخول إلى تلك المنطقة من الذاكرة المعتمة. كتابات سيميك بسيطة لكنها تمتاز بالعمق والديناميكية، حيث تتحول التفاصيل الصغيرة إلى لوحة محكومة من الإبداع والتحرر. في كتابه الشيّق "ذلك الشيء الصغير وسيد التبديات" (كتاب دبي 2015) للمترجم السوري أحمد م. أحمد تأخذ أبجدية سيميك أفقًا أكثر رحابة وحيوية. 

اقرأ/ي أيضًا: دانتي يبلغ عامه الـ 750

يشير المُترجم في مقدمته للكتاب إلى حديث لسيميك لموقع "Artful Dog" يقول فيه: "إنه الموسيقى التي أحببتها منذ المرّة الأولى التي سمعتها فيها... كان هناك نقطة عسكرية أمريكية في إيطاليا وكان بوسع أذنيك التقاطها. وأتذكر أمي ومذياعا ألمانيًّا قديمًا رائعًا، كان ضخمًا للغاية وكنت أقلب الموجات، وسمعت شيئًا ما وأردتُ أن أتبيّن ما كان بحق الجحيم. كانت موسيقى تؤديها فرقة كبيرة، نوعًا من أداء البلوز... أتذكر كيف أحببتها على الفور. ولم لديّ أدنى فكرة ماذا كانت تلك الموسيقا". 

يتضح من كلام سيميك السابق مدى شغفه بموسيقى الجاز، التي يوظفها في أكثر من موضع في قصائده فنجده يقول في قصيدة "FIORDILIGI": "غنّتْ والدتي الأوبرا طوال اليوم/ سوّتْ الأسرّة، خفقت البيض/ وأقسمت بأنه حتى الموت/ لن يمكنه أن يغيّر تقوى قلبها" ص34. ثم نجده في مقطعٍ آخر يقول: "الرّوح صندوق موسيقى/ تدور فيه أغاني العصر الذهبيّ/ في السماء/ منتثرة مع النجوم" ص106.

بالرغم من مشاهد الطبيعة المتكررة في شعر سميك، إلا أن تلك المشاهد سرعان ما تتحول إلى سخرية لاذعة. فمفردات الطبيعة بما فيها من أشجار وسماوات وفاكهة، ليست سوى بقايا لذاكرة معطوبة أنهكتها الحروب والغارات الليلية. ليست هناك بوابة وحيدة للولوج إلى شعر سميمك، إنه حادُّ وقاطع، وسهلٌ لكنه ممتنع، وحلاوته الكُبرى تكمن في مرارته. يقول فيرنون يونغ: "إن الذاكرة – الجذر الرئيس الذاهب عميقًا في الفلكلور الأوروبي – هي المنبع الأساسي لكل شعر سيميك، خريج جامعة نيويورك، متزوج وأبٌ في أمريكا البراغماتيّة، يرتدُّ، حين يكتب قصائده، إلى لاوعيه وإلى أحواض الذاكرة الأولى... في تضاعيف العوالم الشعرية المصغرّة التي قد تكون ضارية وتهكمية وشبه واقعية، أو مخزية إلى أقصى الحدود، يعرض بإحكامٍ مونتاجًا تاريخيًّا". 

ذاكرةٌ مشتتة بين يوغسلافيا من جهةٍ، والولايات المتحدة الأمريكية من جهةٍ أخرى. يقول سيميك في قصيدة "ألف وتسعمئة وثمانية وثلاثون": "كان ذلك سنة زحف النازيون إلى فيينا/ كان أول ظهور لسوبرمان في مجلات الرسوم الهزلية/ كان ستالين يقوم بتصفية رفاقه الثوار/ افتتح أول ديري كوين في كانكاكي، إلينوي/ كنت حينها مُستلقيًّا في سريري الطفليّ بائلًا في حفّاظي" ص111. 

تتحول الحروب كلها إلى مؤشرات بورصـة يومية، ويتحول الكل فيها إلى أسهمٍ خاسرة

تتحول تلك الحروب إلى مؤشرات بورصـة يومية، ويتحول الكل فيها إلى أسهمٍ خاسرة، وعندما يقول سيميك: "بناءً على الحروب الراهنة/ سمعتهم على التلفاز يصرّحون/ بأن رحاها ستدور إلى الأبد/ إذ إنّ أعداءنا لا يُحصون/ سيكون هناك الكثير من (البزنس)/ لأولئك الذين يصنعون القنابل/ والبذلات العسكرية وأسرّة المشافي/ وبالتأكيد التوابيت" ص142. تظلّ اللغة التي يكتب بها سيميك في غاية المرونة والبساطة معًا، لكن تلك البساطة تتحدى عالم بأكمله. لا يخضع للزخارف الجمالية أو اللغوية، لكنّه يوّجه قصائده إلى تلك المنقطة شديدة الوضوح من عالمنا اليومي، فقصائده تفضح، وتجرّح، لكنّها لا تنكشف. مزيجٌ خالص يداعب بيه قصائده ما بين الحداثة والأصالة، حيث تتحول قصائده عن مشاهد حياته اليومية إلى شحنة من العزلة والتأمل. يترك سيميك لخياله العنان يجعل من الصفحة البيضاء قماشة صافية تعتصر كل ما يفكر فيه، إنّه التداعي الحُر وما يقنصه من ذاكرة محتشدة بالتفاصيل.

اقرأ/ي أيضًا: الرواية بحسب ميلان كونديرا

 منذ بداية السبعينيات (1973)، وسيميك يدرّس اللغة الإنكليزية والكتابة الإبداعية والنقد بجامعة نيوهامبشر، ودائمًا ما يصف بيئة "نيوإنغلاند" على إنها مكان يثري للتأمل في وجوه الأطفال الفقراء، والشتاءات البيضاء الطويلة التي تمتد لتسعة أشهر على التوالي. يقول سيميك: "حزينٌ مثل علبة ثقابٍ في بيتٍ أقلع ساكنوه عن التدخين فيه/ حزينٌ مثل صابون ملكة في فيلم/ بعد أن تغادر الحمام/ حزينٌ مثل حبة دواء الحب/ في جيب رجل ميّت". 

ولا تخلو تلك النزعة التأمليّة من التحوّل مباشرةً نحول آليات البيئة الريفية فنجده يقول في أحد المقاطع: "هذا موسم الفريز/ وكذلك بصل الربيع والفجل/ شابٌ يشتري الورد، آخر يركب/ دراجة وسط زحام المرور دون أن يستعمل يديه" ص70. أنتج سيميك مجموعات شعرية نالت حفاوة كبيرة، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر: "بلوز لا ينتهي"، و"أن تخرج القطة السوداء"، و"فندق الأرق"، وقد حصد عدّة جواز أهمها: "جائزة بوليتزر" عام 1990 عن ديوانه "العالم لا ينتهي"، و"جائزة ماك آرثر"، وتم اختياره أميرًا لشعراء أمريكا في 2007. إن سيميك لغة شعرية للخواء الروحي الذي يجتاح هذا العصر، بالإضافة إلى الخراب المادي الذي يعصف بواقعه.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تشارلز سيميك والكتابة في العتمة

تشارلز سيميك وقصيدة "رسالة"