بعد ثلاثة أشهر تقريبًا من اندلاعها تغلغلت الاحتجاجات في نفوس السودانيين، وتحولت إلى حالة مِزاجية أخذت العديد من أشكال التعبير السلمي، وشمل فئات مختلفة من المهنيين والحرفيين، حتى أنه لا يكاد يمر يوم دون وقفة احتجاجية تصحبها عادة المزيد من الاعتقالات، كما اندفعت الروح الثورية الساخطة على الأوضاع عمومًا إلى داخل بيوت المسؤولين ورجال الدولة، بصورة مزعجة لهم، وفي أعمق تجسيد لانتفاضة جيل كامل يتوق للتغيير.

تحولت الاحتجاجات في السودان إلى حالة مِزاجية أخذت العديد من أشكال التعبير السلمي، وشمل فئات مختلفة من المهنيين والحرفيين

ولعل الأطباء هم الفئة الأكثر استماتة في مقاومة النظام الحاكم، أو من عرفت احتجاجاتهم بالشرارة البيضاء، وهي غالبًا تثير مخاوف الحكومة، كما يرى البعض، لجهة أن الأطباء أكثر تضامنًا واستجابة لدعوات الإضراب والوقفات الاحتجاجية، ويأتي في المرتبة الثانية أساتذة الجامعات.

اقرأ/ي أيضًا: تجمع المهنيين السودانيين.. ماتادور غامض يلاعب ثور السُلطة

موكب التضامن مع النساء

يوم الأحد الماضي، دعى تجمع المهنيين السودانيين إلى موكب التضامن مع النساء المعتقلات، وتم استهداف سجن النساء بأم درمان شمال الخرطوم كنقطة تلاقٍ، وبدا ذلك الموكب الأكبر منذ اندلاع الاحتجاجات في كانون الأول/ديسمبر الماضي، حيث احتشدت الشوارع المحيطة بالرجال والنساء، تتقدمهم ناشاطات في العمل السياسي والنسوي. ورغم تصدي القوات الأمنية للموكب إلا أنه تمكن من الصمود حتى مغيب الشمس، وارتفعت الزغاريد والهتافات تلهب الحماس الثوري، كما ضربت القوات الشرطية طوقًا أمنيًا حول السجن للحيلولة دون وصول المحتجين إليه، سيما وأن سجن النساء بأم درمان يغص بمئات المعتقلات منذ أشهر.

فيما كانت صورة مواطن من ذوي الاحتياجات الخاصة يمشي برجل مبتورة وسط المظاهرات وهو يهتف بثورية "حرية سلام وعدالة"، الأكثر تداولًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بجانب صورة أخرى لطبيب صيدلاني كان يلوح بعلم السودان أثناء اعتقاله دون أن يفلت العلم منه حتى وهو ملقى داخل سيارة الأجهزة الأمنية.

تنويع أساليب المقاومة

نهاية هذا الأسبوع، كان النصيب الأكبر للوقفات الاحتجاجية التي أخذت منحى أكثر زخمًا، وشملت الإعلاميين والأطباء وأساتذة الجامعات وعمال الشركات الكبرى والمصارف، مع تنويع أساليب المقاومة بصورة لافتة، كادت تشل أداء الدولة نسبيًا، رغم وجود كتائب إسناد مدني موالية للنظام ويعتمد عليها في تسيير دولاب العمل، ما يعني أن الثورة انسحبت حتى إلى داخل القطاع الحكومي والخاص.

حكومة انتقالية

حاولت العديد من المبادرات ردم الفجوة السياسية ما بين الشارع الثائر والحكومة المستعصمة بالصمت، أشهرها مبادرة الإصلاح والسلام التي تضم أكثر من خمسين شخصية سياسية وأكاديمية على رأسهم الجزولي دفع الله، رئيس وزراء انتفاضة نيسان/أبريل 1985، ضد حكم الرئيس الراحل جعفر نميري. ودعت المبادرة إلى إعلان حكومة انتقالية تتولى إدارة البلاد بالتوافق بين قيادة الحراك الجماهيري والقوى السياسية الكبرى، على أن تقوم بإصلاح الاقتصاد والعلاقات الخارجية وإيقاف الحرب وتحقيق استقلال القضاء والتمهيد لانتخابات حرة ونزيهة تضمن الانتقال السلمي للسلطة.

ورغم النقد الذي وجه للمبادرة وانسحاب بعض الشخصيات منها باعتبار أن أعضاء المبادرة يسعون إلى إبطاء الحراك الجماهيري والبحث عن تسوية لصالح النظام، إلا أن الحكومة أيضًا سارعت برفض مفترح الحكومة الانتقالية، وقال مساعد الرئيس البشير فيصل حسن إبراهيم إن الطريق للحكومة يمر عبر بوابة الانتخابات فقط، وأضاف أنه "ليس هناك حكومة انتقالية ولا أي أوهام"، مدعيًا أن التغيير لا يتم بالتظاهرات ورفع الشعارات والتخريب وتنفيذ الأجندة الخارجية" على حد زعمه.

إعلان الحرية والتغيير

في السياق عينه، دعت قوى الحرية والتغيير النظام للتنحي فورًا وحقن دماء السودانيين، وأصدرت القوى الحليفة لتجمع المهنيين السودانيين بيانًا تلقى "ألترا صوت" نسخة منه، ناشدت فيه القوات النظامية للكف عن حماية النظام والانحياز للجماهير في قضاياهم العادلة، مؤكدة أن إعلان الحرية والتغيير يشمل مبادئ عامة ويضم طيفًا واسعًا من القوى الداعية للتغيير وإقامة البديل الديمقراطي، لكنه ليس احتكارًا للعمل النضالي. واعتبر البيان أن النظام قد تهاوى بفضل المظاهرات السلمية، معتبرًا شباب الثورة هم الذين يقررون مستقبل وطبيعة الحكم في البلاد. إلى ذلك دعى تجمع المهنيين إلى موكب اليوم الخميس، أطلق عليه موكب ضحايا الحروب والانتهاكات، على أن ينطلق من وسط الخرطوم صوب القصر الرئاسي.

 دعت قوى الحرية والتغيير النظام للتنحي فورًا وحقن دماء السودانيين، وأصدرت القوى الحليفة لتجمع المهنيين بيانًا ناشدت فيه القوات النظامية للكف عن حماية النظام والانحياز للجماهير

اعتذار وحصانة جنائية

حذر وزير الداخلية السوداني أحمد بلال عثمان، من موجة كراهية عامة تنتاب الشارع السوداني، مقرًا أن جيله من السياسيين فشلوا في إدارة التنوع وأنهم بسبب ذلك فقدوا ثلث البلاد، مما يحتم عليهم المحافظة على الجزء المتبقي. وشدد بلال على ضرورة الخروج ومحاورة جيل كامل بالاعتذار له بدءًا عن الإخفاق الذي لازمهم في تلك الفترة. إلا أن البرلمان اقترح خطوة بدت مفاجئة للكثيرين وهي منح الرؤساء حصانة جنائية بعد مغادرتهم المنصب.

اقرأ/ي أيضًا: قانون الجرائم الإلكترونية في السودان.. وراء المعارضة في كل مكان

وانقسمت آراء نواب البرلمان بين مؤيد ومعارض لاتجاه سن قانون يمنع ملاحقة الرؤساء جنائيًا، بعد تخليهم عن السلطة. كما أثارت مطالبة نائب برلماني مستقل للدفع بمشروع قانون جديد يمنع ملاحقة الرؤساء جدلًا في الشارع السياسي، ونفى النائب خليل الصادق وهو ضابط سابق في القوات المسلحة أن يكون لحزب المؤتمر الوطني "الحاكم"، أو أي جهة حكومية دور في تقديمه للمقترح، لكنه توقّع أن يشكل المقترح فرصة لتنازل البشير عن السلطة دون تعقيد، وهو ما اعتبره البعض خطوة تمهيدية لسيناريو محتمل لهبوط آمن للبشير مقابل ضمانات دستورية بعدم المساءلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 جمعة الغضب في السودان.. السلطة تقمع والشعب يواصل احتجاجه

عام الثورة على المأساة في السودان