ارتبطت العزلة تاريخيًا بالعملية الإبداعية كشرطٍ لها، وطقسٍ من طقوسها أيضًا. ولكنّها خلال الشهور القليلة الماضية، تحوّلت من شرطٍ للإبداع، إلى آخر للنجاة بعد ظهور فيروس "كورونا" نهاية العام الفائت، لتتحوّل العزلة بموجبه من عزلةٍ فردية اختيارية، كانت على الدوام مقصدًا للكتّاب والشّعراء والمُترجمين، إلى أخرى جماعية إجبارية يقصدها كلّ من يودّ النجاة.

التحوّلات في معنى العزلة وشكلها والهدف منها، تدفعنا للتساؤل عن الشكل الذي باتت عليه عزلة المُبدعين، وأن نسأل عمّا طرأ عليها من متغيّراتٍ بعد ظهور فيروس كورونا، وبعد أن بات اعتزال الآخرين، شأنًا جماعيًا بعد أن كان رغبةً فردية. نُضيف إلى ذلك السؤال عن تأثير الوباء على أحوالهم ككتّاب وشعراء ومفكّرين ومترجمين وغير ذلك. بالإضافة إلى: ما الذي أجّلته كورونا؟ وما الذي أعادته إلى المتن مُجدّدًا؟ وهل غيّرت نظرتهم إلى الحياة؟

توجّهنا بهذه الأسئلة إلى ثلاثة مترجمين عرب، فكانت الإجابات التالية.


يوسف وقّاص

سنكون أكبر الخاسرين

الترجمة والكتابة في آن، تشكلان رؤية شاملة للعالم المحيط بنا، مع تراكمات تصل أحيانًا إلى قرون، سيما أننا أحفاد ثقافة عريقة تمتد جذورها إلى آلاف السنين، بدءًا من الحضارات الأولى في بلاد ما بين النهرين، ووصولًا إلى الحضارة العربية الإسلامية. منذ الصغر، كنت أدوّن ما أعرفه في ذهني وفي كراساتي، وما لا أعرفه كنت أبحث عنه في كتابات الآخرين، وفي تلك المرحلة أيضًا، في سياق متصل مع أجواء الكبت والحرمان، كانت العزلة تشكّل جزءًا من طريقة حياتنا الموسومة بالخوف والقمع والاستبداد.

الآن، بعد هذه العزلة الجماعية التي هي امتداد لعزلتنا الفردية كلاجئين ومنفيين، تسللت المتغيرات بغتة إلى حياتنا، خجولة في البدء، ثم سرعان ما تحولت إلى تيار جارف: الطائر الذي اكتشف عشه، أو قل كيف له أن يبني ذلك العش في أوج ركام خرابه. اللغز المحير في كل هذا كان إعادة اكتشاف الذات عبر الأشياء الصغيرة، صور قديمة، أسطوانات منسية، كاسيتات لأعراس دبكنا فيها حتى ساعة متأخرة من الليل على أصوات الرصاص ومواويل المغنين الشعبيين، كتاب كنت قد اشتريته في الستينيات من القرن الماضي وما زلت أحتفظ به بحرص رغم أن صفحاته تكاد أن تتفتت بين أصابع اليدين، ثم كلمات... كلمات لا نهاية لها. كانت شفاه أحبائنا قد نطقت بها قبل أن يبدأوا رحلتهم الأبدية.

في السابق، أي قبل أن يحل فيروس كورونا ضيفًا بيننا، كنت أقوم ببعض الأعمال خارج البيت، وأعود وقت ساعة الغذاء، أو أستقل القطار إلى بلدة تبعد أربعون كيلومترًا عن ميلانو مرتين في الأسبوع لتعليم الإيطالية للأجانب. وما عدا ذلك، كنت أقضي وقتي بين المعارض وجولات في المدينة ولقاءات مع الأصدقاء ومشاوير قصيرة، إلا أنّها كانت تمنحني النشاط وتحثني على الكتابة والترجمة بعد الظهر أو في ساعة متأخرة من الليل. تغيّر هذا البرنامج الآن، وكان عليّ أن أتأقلم بسرعة مع الوضع الجديد، وتقسيم الوقت ما بين الكتابة والقراءة، والاستمتاع أحيانًا بمشاهدة برنامج تلفزيوني أو فيلم سينمائي، مع طقوس الاستراحة المعهودة من مشروبات وأطعمة خفيفة في خضم نقاش "ودّي للغاية" حول اختيار محتوى الفيلم.

في الحقيقة، يمكنني القول إنني من أولئك الذين وجدوا في هذا الحجر القسري فرصة كبيرة لإنجاز مشاريع كانت قد أمست في طي النسيان تقريبًا، والبدء في مشاريع جديدة كانت تنتظر في ذهني ريثما تجد منفذًا لها على الورق. كنت كمن وجد نفسه فجأة في عالم خيالي، مع فسحة كبيرة تضج بأطياف ألوان تبهر النظر، وحروف بلغات مختلفة، العربية والتركية والإيطالية والصربية، تنقلني إلى أماكن بعيدة، وعادات وتقاليد تدهشني دائمًا لما فيها من حس وبعد إنساني. عالم كنت قد أهملته لفترة من الوقت، فنحن كمترجمين وكتاب لاجئين أو منفيين، تتغير أحوالنا من يوم لآخر، ولا نستغرب البتة عندما نجد أنفسنا مرة عمالًا، ومرة أخرى مرشدين سياحيين أمام الفنادق الفخمة، كما حدث واشتغلت لفترة من الوقت في مدينة أنطاليا التركية، ومرات على أبواب المحاكم بانتظار ترجمة فورية لأحد المتهمين من الجاليات العربية.

إذًا الجدلية هنا تتراوح ما بين العراك من أجل لقمة العيش وبين الكتابة التي لا تستطيع أن تجد حلًا لها، لأنها أصبحت كالخبز والماء، ولا يمكنك بأي حال التخلّي عنها. أقرأ مثل عدّائي سباق التناوب، متنقلًا بين لغة وأخرى. أكتب بلغتي الأم، وأحيانًا باللغات التي احتلّت حيزًا من فؤادي لما كان لها من أثر عاطفي في نفسي. وكل هذه الجداول، في النهاية، تتحول إلى نهر تنساب فيه أفكاري وطموحاتي، وربما آلام جراح تأبى أن تندمل. ويمكنني القول إنّ الترجمة في هذا الوقت بالذات، هي رحلة ممتعة تأخذك بعيدًا إلى عوالم أخرى، حيث تلتقي افتراضيًا بشخصيات وأفكار ربما أنت بأمسّ الحاجة إليها الآن.

حتى يوم أمس مثلًا، كنت مع دانيال بطل "ظلّ الريح" لكارلوس زافون الذي جعلني ألهث معه في البحث عن ذلك الكاتب الغامض المدعو خوليان كراكس. وقبلها مع رسول حمزاتوف الذي أقنعني أنّ داغستان هي أجمل بلد في العالم، بعدما عرّفني بنثره وأشعاره على كل جبالها وأغانيها ورقصاتها وحكمة شيوخها (الشجاعة لا تحتاج إلى صخرة عالية!) ونسورها التي لا تفارق سماءها الزرقاء أبدًا! والآن أنا في عراك مع رواية "إخلاص أو وفاء Fedeltà" للصديق ماركو ميسسيرولي الحائز على جائزة "ستريغا 2019"، وهي من أهم الجوائز الأدبية في إيطاليا، وربما سأقوم بترجمتها خلال الفترة القادمة.

منذ أن فتحنا أعيننا على هذا العالم، لم تخلُ حياتنا من الأحداث المفاجئة، سواء المأساوية أو تلك التي تتجاوز بقدر معين الميلودراما، على مبدأ الأفلام الهندية، رغم واقعيتها الفجّة. لذلك، كان الاستقرار بحدّ ذاته مزعزعًا منذ البداية، و"كورونا" لم يفعل أكثر من نقله إلى مستوى أعلى بقليل، إلّا أنّه كان بالفعل سببًا للعودة إلى مشاريع لم تكتمل بسبب ضيق الوقت أو أسباب أخرى من مكوّنات حياتنا التي تتناقض تمامًا مع كلّ ما يمت إلى الاستقرار والحياة الهادئة. وهكذا وجدت نفسي أعمل بلا انقطاع على عدة محاور، حتى أن الأفكار بدأت تأخذ منعطفًا مختلفًا، ثمّة بذور متعطشة للماء كانت تنتظر بشغف من يسقيها؛ لوحات بيضاء تنتظر من يملأها بالألوان، صفحات فارغة متلهفة إلى رائحة الحبر، تأملات بحاجة إلى من يحضنها مثل فرخ طائر ويعاملها بما يتوجب من رعاية وحنان.

وبالتالي، حاولت منذ اليوم الأول ألّا تكون الفوضى هي من تبحث عن النظام، كما في رواية "اللغز" للأمريكي ماثيو ماكنتوش المليئة بالعلامات النجمية التي تفيد الحذف أو الشكّ، وكلمات مشطوبة بالأسود وعشرات الصور المأخوذة غالبًا من الأفلام، ولكنها مغبشة. إذًا، ظاهريًا، لا نجد أي صلة مع أجزائنا المفقودة، لأننا بتنا نعيش في حالة منفصلة عن أنفسنا وعن الآخرين. مع ذلك، ليس من مجال سوى الاندفاع، وبكل قوة. كان إيتالو كالفينو غالبًا ما يردد: إذا جلست بالطريقة الصحيحة في مكانك، فلن يعيقك الوقت آنذاك، وستظلّ الساعة الرملية معلّقة. شروق الشمس أو غروبها؟ يجدر بنا الانتظار.

ربما نكون في ساعة الاستيقاظ، عندما يستقرّ الانتباه بشكل موحد ومستمر على أشياء مثل الضوء الصامت، وهو ما أعادني، والفضل مرة أخرى لكورونا، إلى مشروع كنت قد انصرفت عنه للأسباب الآنفة الذكر، واعتبره مهمًّا جدًا بالنسبة لي لأنه يحكي عن مرحلة مهمة من تاريخ سوريا: سلب لواء إسكندرون، الاستقلال وأعوام النكبة. إلّا أنّ القصة تبدأ قبل ذلك، في العشرينيات من القرن الماضي، مع بداية الاحتلال الفرنسي. وبطلة القصة شخصية مشهورة في عالم الأدب. كما ترى، شكلت هذه الأزمة بطريقة ما فرصة لربط الصلة مع مشاريع تأجّلت وطموحات كادت أن تندثر في ذاكرتي.

رؤيتنا بشكل عام تختلف من زاوية إلى أخرى، والزاوية التي وفرتها لنا هذه الأزمة، على الرغم من أنها ملتبسة ولا تسمح بإبصار شامل، مكنتنا بطريقة ما أن نعيد التفكير في أشياء كثيرة وندرك أنّ مسار الحياة ليس بالضرورة مستقيمًا ولا يخلو من العثرات. بديهة كنّا نعرفها عن ظهر قلب، إنما كان لا بد من صدمة ما بين آونة وأخرى، لكي نتوقف عندها ونتأملها بعمق. يخطر ببالي العنوان الفرعي لإحدى روايات أنطونيو تابوكّي، "الأوزّة تواكب الخطوة: أخبار من الظلام الذي نمر به". لأن الكلمات الممزوجة بالخوف لها طعم آخر، ونجد من يؤازرها في نصوص كتاب كثيرين، عندما استشفوا المستقبل بمجازات تتراوح بين العدوى الحقيقية، وتلك التي تأتي وهي ترفل بمسوح الرهبان، كما في رواية "الطاعون" (مجاز للفاشية والنازية). كلمات تنظر بذهول إلى خارج النوافذ، حيث انسحب الناس من العلاقات الاجتماعية ولجأوا إلى تلك المأوي التي هي المنازل، ليملؤوها بالحوارات والقراءات والكتابات، وهم ينظرون بأسى إلى مدينتهم التي تحولت في طرفة عين إلى مدينة للأشباح.

ما ظلّ ثابتًا، هو الترنيمات الأولى بجانب المهد، والحكايات التي سمعناها لأول مرة بالأرمنية والتركية والكردية ولغات شعوب القفقاس الذين، بانصهارهم في مجتمعنا، شكّلوا أحد أجمل لوحات الموزاييك في العالم. كانت قصص عن الحبّ والشجاعة والإيثار، عن المعاناة والهجرة والشتات، لتنبثق منها ما يمكن أن أسميه اليوم عصارة أفكار ومبادئ ظلت مترسخة في نفسي كجبال القفقاس وكيليكيا وطوروس (مسقط رأس أمي) وزاغروس. الخنجر بجانب القلبق، وكتاب "حزرتي علي’نن جانكلَري" (بطولات الإمام علي) بجانب السماور، والزورنا (المزمار) والطنبور بجانب قصائد الشاعر الأرمني الكبير سايات نووا. إنها "سوريتي" التي لن تتغير أبدًا في داخلي رغم ما حلّ بها من دمار وخراب.

صحيح إنّها أفكار وصور تعود إلى مرحلة الطفولة، ولكنها كانت دائمًا البوصلة التي توجهني في عباب بحر مليء بعواصف ومخاطر لا حصر لها. وربما هذا ما ساعدني أيضًا في تجاوز الكثير من المصاعب بهدوء وحكمة أولئك الرجال والنساء الذين كانت الحياة قد عجنتهم و"خبزتهم" مرات ومرات، كما يقال عندنا.

أما بالنسبة لعالم ما بعد كورونا، فلا بد من بعض التغييرات التي ستفرض نفسها على الأقل لفترة معينة من الزمن، تغييرات ملزمة وليست اختيارية، كالعناية بالنظافة واتخاذ التدابير الوقائية الأخرى خوفًا من هذا الفيروس، أو من أمراض معدية أخرى. ثمة من لا يهتم، وثمة من ينتظر، وجميعنا متورطون، وما يُخشى منه حقًا، هو أن أملنا في ابتغاء الأفضل، ربما سيؤول إلى أسوأ خيار عرفته البشرية. في هذا الصدد، أشك بأنه سيطرأ تغيير محسوس على المسار الإنساني بشكل عام. على الأكثر، سيكون هناك تبادل في الأدوار بين قوى صاعدة وقوى ستجد نفسها مضطرة للتراجع، كما حدث لبريطانيا العظمى بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن مبدأ الاستغلال وعدم التساوي سيبقى على حاله، هذا إذا لم تعلُ وتيرته أكثر من الماضي الحافل بانتهاكات لا حصر لها من قبل الأقوياء تجاه الضعفاء، بما في ذلك الحقبة الاستعمارية العتيدة.

 ما تعلمناه حتى الآن، وهو ما تثبته كل الأحداث الكبرى في التاريخ، أنه لا مكان للضعيف في هذا العالم، فإما أن تكون قويًا اقتصاديًا كما هو الحال في دول جنوب شرق آسيا، أو قويًا عسكريًا واقتصاديًا مثل الدول الغربية والصين وروسيا، وبعض القوى الناشئة كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. للأسف، نحن لا نملك كلا الشرطين، وأعتقد بأننا سنكون أكبر الخاسرين بعد هذه الأزمة، لأن الكل، أعني كل من بيده القوة، سيعوض الخسارة التي تلقاها نتيجة هذه الأزمة على حسابنا.

مع هذا، أتمنى أن نتمكن من تحاشي الضربة المقبلة بالعقل والحكمة، وأن نسعى لبناء ذواتنا ومجتمعاتنا بطريقة تسمح لنا على الأقل في الدفاع عن أنفسنا بشكل مشرّف ضد كل الأخطار التي تحيق بنا، سواء أكانت طبيعية أو نتيجة مطامع الدول العظمى.

في لوحة "بونابرت يزور ضحايا الطاعون في يافا"، التي أنجزها أنطون جان غروس عام 1804، بتكليف من نابليون بونابرت نفسه، لتمثيل أحد مراحل الحملة المصرية، نجده يلامس دمّل أحد المرضى، بالتوازي مع التقليد الشائع آنذاك بأن لمسة الملك، ملك فرنسا، تشفي من داء الخنازير أو سلّ الغدد اللمفاوية، حيث كان يريد من وراء ذلك جعل الناس ينسون الحادثة التي وقعت بعد حصار يافا، عندما أجهز على ثلاثة آلاف من الأسرى المصابون بالطاعون!

 

معاوية عبد المجيد

كنت أتمنى لو أني أعمل في مجال آخر

في بداية تفشي وباء كورونا، لم أعبأ كثيرًا وظننت أنها نزلة برد تصيب التنين الصيني، في عرينه البعيد (بالمناسبة، ما اسم بيت التنّين؟). ثم تحوّلت الأزمة إلى وباء عالميّ، ووصل البلل إلى ذقوننا. تهيّبتُ في البداية، مثلي مثل جميع سكان هذه الأرض. ذهبت لشراء مستلزمات الوقاية، فلم أجد شيئًا. الصيدلية المجاورة لم تنزع حتى الآن اللافتة التي وضعتها على بابها: "لا يوجد لدينا كمامات، ولا كفوف ولا دهون كحولية". بدأ الحجر الصحي الإلزاميّ هنا في فرنسا، فالتزمت به وبدأت بمتابعة أخبار الجائحة وتخوُّفنا منها: أعداد الضحايا والإصابات المستجدّة، ونظريات المؤامرة التي صاحبت هذا كلّه.

فكرتُ أن الحجر الصحي ما هو إلا حياة يومية بالنسبة إلينا نحن المترجمين وسائر معشر الفريلانسر. لكننا ويا للغرابة نحب الخروج وشرب القهوة وغيرها في المقاهي والحانات، نحتاج شراء الأغراض ولقاء الأصدقاء على قلّتهم. نضطر للذهاب إلى المراكز الحكومية لتسيير معاملاتنا وأمورنا، ولا نقتنع كثيرًا بالتواصل الإلكترونيّ مع موظفين ملولين ليس لديهم خبرة ولا يستعملون ذكاءهم إلا للضرورة القصوى. وليس من السهل أن ترى كيف تتحول البشرية كلها إلى العمل في عزلة، مثلك، بل إن هذا يخلّ بالتوازن الذي تصارع كل يوم من أجل إبقائه ثابتًا. تحاول إقناع الناشر أنك تعمل في المنزل، هذا صحيح، لكنك أيضًا تخرج وتذهب وتروّح عن نفسك، تمشي طويلًا، وتقصد إلى المكتبة أحيانًا للاطلاع على بعض الكتب والمراجع المهمة جدًا للكتاب الذي تترجمه في البيت. ثم اقتنع الجميع وخفّ القلق والتوتر ووجدا لنفسيهما حالة ثبات في انتظار افتتاح الحياة من جديد.

أحاول قدر المستطاع متابعة الترجمات التي أقوم عليها، وأغض الطرف عن وجود أزمة عالمية. ولكن، مثلًا، كنت قد أوصيت أمازون بكتاب يأتيني به من إيطاليا، كتاب متعلّق بترجمةٍ أعمل عليها حاليًا، كتاب ضروريّ؛ إلا أنّ هذا غير متوفر في ظلّ ما تعانيه إيطاليا من مجزرة صامتة ووهن كبير تحياه الأمة، ونحياه معها. كما أنّك أحيانًا تضطر إلى الوقوف في الطوابير على أبواب المتاجر ساعات، لشراء طعامك، وهذا يسلب وقتك ويفسد مزاجك المعتدل الذي لولاه لا وجود لترجمة.

كنت أتمنّى لو أنّي أعمل في مجال آخر، فأفيد من الحجر الصحي بقراءة روايات أحبّها. روايات طويلة وحكايات من عالم آخر: ملحمة "أغنية الجليد والنار" للأمريكي جورج ر. ر. مارتن وترجمة المصري هشام فهمي وإصدار دار التنوير. سيحين وقتها، لا بدّ من ذلك.

نحن الآن في قلب الأزمة، لا أعرف ما الذي أضافته حاليًا، لكنها ثبّتت الفكرة التي يجتمع عندها الخصوم: لو أنّ الإنسان اهتمّ بالطب أكثر من اهتمامه بالحرب لكان وضعنا أفضل. الجو رائق جدًا بفضل إغلاق المصانع وتعطيل مداخنها وتوقف حركة الطيران والسيارات وغيرها؛ حبذا لو فُرض هذا الحجر على مستوى العالم مرة في السنة، بذلك تستعيد الطبيعة عافيتها.

أما رؤيتي للعالم ما بعد كورونا، فسأتحدث هنا عن المجال الذي أعمل به: كلّ الخبراء يتوقعون أزمة ركود اقتصادي رهيبة، البورصات تتهاوى والأسواق الكبرى تتراجع، فماذا عن سوق النشر العربية؟ أعتقد أنها ستمرّ بأزمة ضخمة، لأنّها تعاني أساسًا من أزمة ضخمة. في هذه السنة ألغيت معظم معارض الكتاب، وبسبب الحجر المفروض توقفت المطابع وأغلقت المكتبات. وأستغرب كيف أنّ الصحفيين لدينا لم ينتبهوا بعد إلى ذلك. ينبغي لهم أن يهرعوا لطرح التساؤلات على أنفسهم والأسئلة على الناشرين وأصحاب المطابع ومتاجر الكتب الكبرى، وأن يقدّموا إحصائيات وتنبؤات كي نبني عليها توقّعاتنا وآمالنا بالخروج من النفق القادم. خوفي أن يدفع المترجمون ثمن الكساد المتوقع، كما دفعوا من قبل ثمن قرصنة الكتب وتزويرها. نرجو من الصحفيين أن يهتموا بهذا الجانب أيضًا. دور نشر كثيرة معرضة للانهيار، وطبعًا هذا ليس وقت التشفي والشماتة بالناشرين، فهي سفينةٌ إن غرقت غرقنا جميعًا، لكنها قد تنجو – فلنكن متفائلين!

 

عبيدة عامر

الترجمة الآن مهرب كبير من الأسئلة الكبرى

في الحقيقة لم يتغير الكثير مع الأزمة، ربما يرجع هذا لأسلوب الترجمة المتبّع، فبسبب عدم تفرغي الكامل للترجمة، يعتمد أسلوبي على الانخراط بها مباشرة بغض النظر عمّا قبلها أو بعدها، واستمر هذا الحال في العزلة الجماعية.

ولكن، في الوقت نفسه، التأثيرات الكبرى التي داهمت الحياة فجأة وصلت إلى الترجمة، فبشكل عام، وبعكس ما هو متوقع، بات الوقت المخصص أقلّ، عدا عن التركيز والقدرة النفسية المتأثرتان مع تزايد القلق وعدم وضوح القادم.

الترجمة الآن مهرب كبير من الأسئلة الكبرى التي باتت شأنًا يوميًا ولحظيًا. لا شيء واضح، سوى الكلمات المتناثرة في النصوص والتي تبحث عن صياغتها الأنسب، ولا مستقبل مرسوم سوى أنّ هذا المشروع يحتاج أن ينتهي. الترجمة تحديدًا قادرة على توفير هذا المهرب والغرق به لأنّها خليط فريد بين الجهد الإبداعي والميكانيكي، بعكس الكتابة والبحث مثلًا، ولذا فالدخول والغرق بها أسهل من غيرهما.

ساعدتني ودفعتني الأزمة أكثر على التركيز بمشروع الترجمة الحالي، وهو لكتاب "منطق العنف في الحروب الأهلية"، وأحاول إنهائه بأقرب وقت ممكن، وإن لم يكن هذا الدفع على طريقة أن هناك مزيدًا من الوقت ولذا يمكنني التركيز أكثر، بل بطريقة أنّ العالم على وشك أن ينتهي، فحاول أن تنهي الكتاب قبل ذلك.

أمّا عن رؤيتنا للحياة بعد الأزمة، لا أعلم حقيقة. هناك خليط من المشاعر والأحاسيس المتضاربة والمتغيرة يوميا. أحيانًا أشعر بالراحة والاسترخاء، وأحيانًا أخرى كثيرة بالقلق، وأحيانًا بالتفاؤل، وأحيانًا باليأس المطلق. لست من المؤمنين بالتغير الجذري للعالم بعد كورونا، فالتاريخ علّمنا أنّ قدرة الإنسان على التعلّم من أخطائه ومصائبه أقلّ مما يتمنّى الشعراء والمتفائلون، وإن كان هناك من راحة شخصية وعامة، فهي أنّ كورونا على الأقلّ قد أوقف القصف والموت في إدلب وغيرها، وأكثر ما يخيفني هو أن تعود الحرب مع الفيروس، فهذا أكثر من قدرتي على التفكير والاحتمال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار مع 3 مترجمين.. في ضباب الترجمة ويأسها

6 من أبرز المترجمين العرب الشباب