أمريكا بلد مهاجرين. ما يميزها عن غيرها من بلاد المهاجرين أن المهاجرين إليها قطعوا بحارًا طويلة في زمن غابر حتى وصلوا إليها. رحلاتهم تلك كانت من القسوة بمكان، بحيث لا يمكن مقارنة صعوباتها وويلاتها برحلات المهاجرين الذين يقطعون البحر المتوسط بقوارب صغيرة. قاع المحيط الأطلسي هو في واقع الأمر مقبرة أسلاف الأمريكيين. فيه غرقت سفن بكل من فيها وما فيها، وفيه رميت جثث الذين لم يقووا على إكمال الرحلة نحو الشاطئ البعيد.

بلد المهاجرين هذا يبدو للناظر إليه من بعيد أشبه بجنة. والعبور إليه يشبه البرزخ الذي يفصل الجنة عن الأرض. إنما مع ذلك حين يصل المرء إلى هذه الشواطئ لا يستطيع أن ينسى ما اختبره وعاناه. كل الذين وصلوا إلى هذه القارة قديمًا وحديثًا، أتوا هربًا من حياة لم تعد ممكنة. وكل واحد منهم لديه قصته التي تقشعر لها الأبدان.

أمريكا بلد مهاجرين. ما يميزها عن غيرها من بلاد المهاجرين أن المهاجرين إليها قطعوا بحارًا طويلة في زمن غابر حتى وصلوا إليها

 

لكن أمريكا ليست بلد روايات. أهلها لا يملكون الوقت الفائض الذي كان يتمتع به أرستقراطيو أوروبا لصناعة الروايات وكتابتها. ولا يملكون نعمة البطء التي يسهب بوصفها ميلان كونديرا في روايته التي تحمل العنوان نفسه. الوقت ليس متسعًا في هذه البلاد الواسعة. ولا يستطيع المرء، في هذه البلاد، أن يحضّر نفسه طويلًا ويراقب مظهره أمام المرآة قبل خروجه من المنزل. أوقات الفراغ قليلة، وحين يتمكن المرء من موافاة الفراغ بعد نهار عمل شاق، سيحرص أن يفعل كل شيء لينسى أنه حي. هذه أسباب بوسعها أن تكون مادة لا تنضب لكتابة الروايات في بلاد أخرى. لكن هذه البلاد تعلّم أهلها أن رواية القصص ليست من شؤونهم. إنها شأن من يجلسون على مقاعدهم الوثيرة متفرجين. أما هم فليسوا سوى أحصنة سباق سيزيفية لا يكاد المرء منهم ينهي سباقًا حتى يبدأ آخر. كل ما يجنيه من السباقات يُكنز على نحو لا يمكن استعماله معه. ويحدث أن يجمع بعضهم ثروات هائلة، لكنهم أقل الناس استمتاعًا بثرواتهم. وأكثر الناس إدراكًا أنها قد تزول بطرفة عين. الحكايات المتعلقة بخسارة الثروات وزوال الإمبراطوريات في الولايات المتحدة لا تحصى. ليس ثمة في هذه البلاد ما يدوم. وحين يتحدث البعض عن إمبراطورية أمريكية تشمل البلاد من المحيط إلى المحيط فإنما يتجاهل أن هذه الإمبراطورية ليست على شاكلة الإمبراطوريات التي يطفح بها ذهنه. إنها تجمّع لإمبراطوريات فردية وعائلية ومساهمة، وكل يوم ثمة من يغرق منها وثمة من يطفو على السطح.

قصص النجاح والفشل والخوف والترقب والشجاعة لا تحصى ولا يحويها الخيال في هذه البلاد. مع ذلك لا أحد يكتب هذه القصص ولا أحد يملك وقتًا فائضًا لتدوينها. تبقى على حالها تسكن في الهواء، ولا تقترب من الأرض أبدًا.

ما يبدو صالحًا للتدوين في هذه البلاد هو النصائح التي يطلقها الناجحون لأولئك الباحثين عن النجاح. المدونات لا تبلّغنا على الأرجح شيئًا أبعد من تعيين مسار النجاة. كيف تنجو من الغرق الذي يهددك كل يوم؟ وكيف تنجح في أن تبقى ساعيًا وعاملًا ومنهمكًا وتتجنب السقوط في هوة الذاكرة والتذكر. وحدهم الذين سقطوا في هذه الهوة هم من يكتبون، هم الوحيدون الذين يقصّون سيرهم ويفترضون أنهم بهذا القص يستطيعون لفت أنظار هؤلاء الذين لا يتوقفون عن السعي لأي سبب مهما كان وجيهًا.

على النقيض من هذا كله، ثمة فيض روائي في العالم. وفي عالمنا العربي على وجه الخصوص. فيض روائي يتوخى أن يرشد القارئ والسامع والمراقب إلى الكيفية الأنسب لمعاقرة الحياة، من جهة أولى، ويصرّح، من جهة ثانية، بظلامته ومعاناته مؤشرًا على جروحه ومكامن وجعه. وهذا في حد ذاته ليس أمرًا يمكن الاعتراض عليه. لكنه يبدو في مآله الأخير عمل قاصرين ينتظرون من يطعمهم ويكسوهم. ثمة موت كثير معلن في كتابات بلادنا، وهناك الكثير من الوصفات الجاهزة التي تزعم أن اتّباعها يجعل الحياة أفضل وأرق. لكن هذا كله لا يضع مجمل الروايات التي تصدر من تلك البلاد تقع أبعد من موقع المتسولين. في أحسن الأحوال قد يضعها في موقع الجارية التي ليس لها وظيفة تجيدها غير الانتظار.