29-سبتمبر-2022
 Los Ángeles

مدينة لوس أنجلوس

صورة أمريكا التي صنعتها هوليوود القائمة في لوس أنجلوس كانت دومًا مشمسة. تستدعي المدينة التي لم يكلفها الله بمعاقبة الناس بهجة ودعة. نهارات مشمسة من دون حدة، وليال تحولها نسائم لطيفة إلى دعوة للأنس والسمر. ثمة نجوم لا تغيب عن ليالي لوس أنجلوس. لهذا ربما لم تجد المدينة وظيفة لنفسها أفضل من تقليد مناخها والتخصص بصناعة النجوم. نجوم لوس أنجلوس ليسوا في سمائها فحسب. إنهم في شوارعها وفي قصورها ومطاعمها ومقاهيها ومسارحها، وهم، إلى جانب مناخها الخلاب هذا، يصنعون مزاجها وزمنها العامين. ولطالما صنعوا مكانها العام حين كان للمكان العام قيمة يمكن أن تضاف.

مناخ لوس أنجلوس هو مكانها العام، حيث كل رسائل الناس المقيمين فيها تخرج من صدروهم نحو السماء وتنتقل عبر أثيرها إلى الآخرين

 

مناخ لوس أنجلوس هو مكانها العام، حيث كل رسائل الناس المقيمين فيها تخرج من صدروهم نحو السماء وتنتقل عبر أثيرها إلى الآخرين. فيما يقوم نجومها الأرضيون المقيمون فوق ترابها وخلل نسائمها العليلة بجعل المكان العام ساحة للإيجار: جرت مذابح بين رجال المافيات في شيكاغو ولم يصورها أحد، لكن نجوم لوس أنجلوس أقفلوا طرقاتها العامة ليتسنى لهم تمثيل ما حدث هناك. مكان مستأجر، يقص حكايات آخرين. ليس لأي كان في هذه المدينة أن يقص حكايته الخاصة، عليه أن ينطق بلسان آخرين بعيدين. هذه المدينة تقع على حافة العالم، بين الأرض والجنة تمامًا، معبر مؤقت إلى الجنة. وليس ثمة ما يحدث فيها حقًا، كل أحداثها تأتي من ذاكرات من هم خارجها.

لكن المدينة التي لا تقع في هذا العالم جغرافيًا وحياتيًا، لم تلبث أن أنشأت بؤسها المقيم. ذلك أنها لم تكتف بدور تصوير ذكريات المدن الأخرى والحضارات والدول، بل، ولأنها خفيفة إلى هذا الحد، تنطحت لدور صانعة أحلامهم. كل مقيم في هذه المدينة هو حالم، نبدأ من المهاجرين المتحدرين من كل دول العالم والذين يحلمون بحياة أقل بردًا وقسوة من حياتهم في بلدانهم الأصلية، ونمر على كل الذين أنعم عليهم الله بجمال يضارع جمال الحور، فحسبوا أن هذا الجمال قد يكون بطاقتهم المضمونة للدخول في جنة الأرض، والعيش في كنف بساتينها ونخيلها ومتعها التي لا توصف. لكنهم حين حل بهم الرحال في هذه المدينة القصية، اكتشفوا أن مركبة الدعة ضيقة ولا تتسع للجميع، وعليه، أمضوا حياتهم على لائحة الانتظار.

في الأثناء، أثناء انتظارهم، عملوا بكل ما هو مؤقت، ندلًا وخدمًا ومقدمي خدمات جنسية وبائعي وثائق تأمين ومروجي بضائع وسلع. ولم تلبث الحياة أن سبقتهم ودفنتهم مع أحلامهم في هذه الجنة. كما لو أن لوس أنجلوس تجمع بين بحرها وجبلها الجنة والجحيم في الوقت نفسه.

مع أن البؤس موجود ومتكاثر في كل المدن، إلا أن ما يجعل بؤس لوس أنجلوس مرعبًا ومخيفًا يتصل بواقع أن هذه المدينة لا تصدّر غير صور جناتها الخلية والوادعة. هذه المدينة، بخلاف مدن كبرى أخرى تنطحت لتكون جنات أيضًا، لا تنقل لك صور عادييها والسائرين فيها أو حتى تكنوقراطييها وبيروقراطييها. الحزن هنا يصير محزنًا حين تعلن ليدي غاغا أنه أصابها، والغضب يصير غضبًا حين تكتشف بيونسيه أن صديقها يخونها، والبؤس يصبح بؤسًا حين تظهر نجمة من نجومها وقد غادرها الألق. بؤس الناس البائسين لا مكان له في صورة هذه المدينة. ولأن الأمر كذلك، لأن ثمة ملايين القصص محكوم عليها سلفًا بأن لا يسمعها أحد ويتفاعل مع أحداثها وتجاربها، فإن من يعيش خارج هذه المدينة يحسب أنها لا تعرف البؤس إلا مصادفة.

هكذا تصنع لوس أنجلوس صورة حلم العالم ورجائه، ثم لا تلبث أن تصنع مسالكه اليومية وعاداته اللحظية، وتفرض على من هم خارجها منطقها ومسالكها في كل مناحي الحياة. والناس، كل الناس وهم يرنون إليها من البعيد، لا يكفون عن تقليد تسريحات نجمات ونجوم السينما والإنترنت، ولهجاتهم ومسالكهم. كما لو أن العالم يمكن أن يدار بواسطة الشعارات، وكما لو أن الحياة يمكن أن تعقل بكليشيهاتها فقط.