الامتحان

كانت رحاب تردد دائمًا على مسمعي ومسمع الآخرين "شو فيها هالعيشة" كأسلوب تشير فيه إلى زهدها وتعففها عن الحياة ومتعها.

قضت عمرها في درجات الرمادي حتى تصبّغ به ما ظهر منها وجهها ويديها وقدميها. تسلّل إلى عينيها فانعكس في نظراتها، غلّف كلماتها فخرجت باردة على سطحها قشرة من جليد، أصابها في روحها فتكسرت أجنحتها.

الرمادي أسهل فسلّمت به، الرمادي ذو عرض حصري اشترته، الرمادي social accepted هنا بيت القصيد.  

جعد وجه رحاب الفاتن قبل أوانه، فكرهته وكرهت الحياة بأسمائها الـ 99؛ الجميلة، المظلمة، الكريمة، القاسية، الجبارة، المعزّة، المذلة... 

غادرت رحاب الحياة كما حملتها في داخلها مخنوقة بنوبة الصرخات الصامتة. رحاب التي كانت أجمل فتاة في عائلتنا رسبت في الامتحان!

 

الحكمة اليتيمة

أنا ودانا وندوش وشيرين وكنانة ومها جميعًا نرغب في أن نجد الحكمة ونصير حكيمات، ظنًا منّا أنها ستجعلنا سعيدات أو هانئات على أقل تقدير. كنا مقتنعات بأن المرأة تتطور رؤيتها في الحياة والمواقف والعلاقات بعد تجاوز سن الثالثة والخمسين، ومعيار قياس الحكمة هو مؤشر السعادة، إيجابي يعني حكمة، سلبي يعني غيابها.

بحثنا عن الحكمة في سطور الكتب وزوايا المكتبات، تحت ركام العلاقات الزوجية الفاشلة، وفي تحليل الأنماط الاجتماعية الموروثة، في مقابلات الكتاب والشعراء والمؤرخين والمؤثرين والمتصوفين ومدربي الحياة.

الحكمة عارية، لم نرها عندما صادفناها.

الحكمة بسيطة، لم نصدقها عندما سمعناها.

الحكمة صريحة، لم يعجبنا موقفها.  

ولأن الحكمة تحتاج إلى التبني تركناها جميعًا في دار الأيتام.

 

الأنوثة المتحولة

صفقتُ باب الشقة وعبرتُ إلى غرفة النوم مسرعة، فتحتُ باب غرفة خزانة الملابس بقوة فأصدر صريرًا حادًا، أنفخ كالثور الهائج الذي يرغب في تحطيم هذا الجدار البائس اللون، وكل الجدران التي ما إن أدكها حتى ترتفع غيرها.

أحرك الملابس المعلقة، سراويل طويل وقصيرة، سراويل مصنوعة من الجينز والقطن والكتان، أمررها بيدي لأراها جميعًا، لأعثر عمّا أشعلني مثل بارود التقط شرارة. ألوان باردة هنا لا تشد عين الناظر إليها؛ أزرق، أسود، بيج. تنكسر علاقة بلاستيكية بيدي فأضربها وأضرب الملابس بالأرض وأجن كمن فقد أغلى ما لديه.

يجب أن أعود إلى عملي بسرعة، وبعد ساعتين ينبغي لي أن أقلّ ناجي ومي من المدرسة، ثم أعود إلى العمل. بعد ذلك يجب أن أتبضع في المركز التجاري، ثم أعود إلى المنزل لتحضير وجبة المساء، فالجلي، التنظيف، الغسيل، متابعة دروس الأطفال... والسوبر ماما، عفوًا السوبر باما، لا تزال تقف هنا أمام هذه الخزانة وكأنها تحتوي على سر الأسرار أو كنز الكنوز.  

أقلب القمصان والبلوزات والسترات، كلها عريضة لا تبرز أنوثتي. متى جمعت كل هذه القمامة هنا لا أدري. هذا الجسم الأرض البور الذي لا يشتهي زرعًا ولا حصدًا طرأت عليه تغييرات في غفلة مني، لكني رصدتها اليوم بأم عيني، رصدتها في لغة جسد ذكورية. يقع في يدي سوتيان كسوتيان الجدات، وملابس داخلية كملابس الراهبات.

أجلس على حافة السرير، أنظر إلى المرآة، تنقبض معدتي بشدة وأقفز لأتحقق مما رأيت فوق طرف شفتي أشاربًا أم ظلًا! 

 

كابوس جميل

عندما تغرق مراكبها يظهر لها جميل، تنطفئ النجوم.. جميل، يذبل المعنى.. جميل، تكف الأرض عن الدوران.. جميل، تسقط في ثقب أسود.. جميل. يظهر في أحلك كوابيسها ليشق الظلام بحضوره ولو مرّ عشرون عامًا على فراقهما.

كنت قد قرأت أن الأشخاص بمن فيهم العائلة والأصدقاء يظهرون في أحلامنا كدلالة على جزء من شخصيتنا. وجميل، ولو غاب عن ريم، كان الجزء المحارب والمحب دائمًا من ريم إلى ريم.

"لقد آن الأوان لتهتمي بريم أكثر" أخبرتُ ريم التي ترنو إلى البعيد عبر النافذة. "عقلك الباطن يظهر حاجاته بصورة جميل" أضفتُ. واحتستْ هي من كأسها ومضعت الجبن ببطء، ثم قالت:

"يوجد نوعان من الرجال تعرفين كبدهم عندما ترفضينهم، الأول يتصرف كقحبة، والثاني ينسحب بصمت، وجميل ذو كبرياء".

"لم أفهم لماذا رفضته، كان مجنونًا بك" استنكرتُ.

"لا أستحق حبه".

فتحتُ صفحة جميل على الفايسبوك من هاتفي الجوال، لا يزال وسيمًا رغم الوزن الذي اكتسبه، في نظرته العشبية حِيرةٌ مسافرة، خطفت ريم الهاتف من يدي ونظرت إلى الصورة مطولًا، ابتسمت وقالت "انظري إلى سترته، أي صدفة!".

كان حرف الراء بالانجليزية مطرزًا فوق الجانب الأيسر من سترته، فوق قلبه مباشرة.

قلت لها بثقة: "لا أؤمن بالصدف يا عزيزتي".