09-يوليو-2016

( STR/AFP/Getty)

أشمُّ رائحة تحريض على توسيع نطاق التضييق والقمع والمصادرة تفوح من بعض الكتابات التي تنشرها الصحف القومية و"المستقلة" المصرية في الأيام الأخيرة، خصوصًا أننا نعرف جيدًا أن تلك الكتابات التي تصدر عمَّن يسمّون "بالقيادات الصحفية" الجديدة، ليست كلها آراء شخصية، وإنما أغلبها يعبّر عن توجهات مراكز القوى وأجنحة جهات القرار في مصر.

ثمة انطباع مغلوط يجري تمريره عن خطورة إطلاق حرية التعبير في مصر، وما يستلزمه من ضبط "الفلتان" المترتب على ذلك

والكتابات التي أعنيها تلك التي تتذرَّع بالتطورات "المؤسفة" التي خلّفتها "أحداث" 25 يناير، وحالة السيولة الفائقة والغريبة -التي يسمّونها فوضى- في صناعة الرأي العام المصري منذ 2011، حين أدرك المصريون قيمة صوتهم ورأيهم. إلا أن تلك الادعاءات الباطلة التي يروّجها دراويش عصابات الحكم في مصر تتجاهل عامدة حقيقة أن بقاءهم في حد ذاته في أماكنهم، أو في أماكن جديدة، هو الأمر الشاذ والغريب فعلًا في بلد أسقط رئيسين خلال 4 سنوات، بعد 30 عامًا من حكم الدكتاتورية المباركية. هذا التجاهل ليس عائدًا إلى السهو ولا النسيان، ولكنها "البجاحة" والصفاقة التي يتصف بها أصحاب الجلد السميك، من مبرري سياسات التجويع وإحكام القبضة البوليسية وترويج دعوات الإقصاء، التي تجعلهم يكيلون الاتهامات لكل من يخرج عن قطيع الولاء لفيلسوف الرؤساء وحكيم الفلاسفة.

لا مجال هنا لحصر كل التشويهات والأكاذيب التي ألحقها هؤلاء بثورة الخامس والعشرين من يناير، ولكن الخطير هو نجاحهم في غسل دماغ العديد من الجماهير من مدمني الاستقرار الأمني والكلام العائم الفضفاض حتى صارت الثورة بالنسبة لقطاع عريض من الشعب المصري ليست سوى مؤامرة دبّرها "الإخوان" بمساعدة أطراف خارجية لإشاعة الفوضى والانفراد بحكم البلاد.

لقد قرأت كتابات لا يزال يتحدّث أصحابها عن ضرورة تدخل السلطة لوضع ضوابط لحرية التعبير في مصر، حتى لا يتم التذرّع بها من أجل إثارة الفوضى وإشاعة التخريب في البلد. والحقيقة أنني لا أعرف ما الذي يريدونه على وجه التحديد، ألا يكفيهم قانون الإرهاب؟ والقبض العشوائي على المواطنين؟ والاختفاء القسري في المعتقلات السرية؟ أين حرية التعبير تلك التي يتحدث عنها هؤلاء في بلد ألقت أجهزته الأمنية القبض على المئات وحُكم على بعضهم بالسجن لخروجهم في مظاهرة شعبية لتأكيد "مصرية" جزيرتي تيران وصنافير؟ وبافتراض العكس، فإن في تلك الكتابات، التي يمكن وصفها "بالمسمومة"، ثمة انطباع مغلوط يجري تمريره عن خطورة إطلاق حرية التعبير في مصر، وما يستلزمه من ضبط "الفلتان" المترتب على ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. أبرز فضائح إعلام السيسي

في عهد مبارك، كان الجميع يعلم أن كل ما هو متاح ليس أكثر من هامش تتحرك فيه بعض وسائل الإعلام، التي يخضع أغلبها للسيطرة الكاملة أو النسبية من قبل السلطة، وكان صقور الإعلام المباركي يخرجون من حين لآخر للمطالبة بتضييق ذلك الهامش. ولعل ذلك، على رفضي الكامل له، يبدو معقولاً ومفهومًا، بالنظر إلى أن مصر عاشت فترة طويلة من سيطرة الإعلام الرسمي على عقول السواد الأعظم من المصريين، لا لشيء سوى أنه هو الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامه. ولكن المفارق والمدهش هو عطب خيال صحفيي وإعلاميي السيسي ووقوف الزمن بهم والمطالبة بنفس ما كان يقوم به أسلافهم من دراويش مبارك. وأغلب الظن أن التداخل في الخيال والعقليات عائد إلى بقاء وجوه الحرس المباركي القديم دون محاسبة، وانضوائهم تحت مظلة الدكتاتور العسكري الجديد، وشحذ مهاراتهم في الكذب والنفاق لحجز مكان في خارطة الوجود السيساوي.

 أضعفت ثورة الاتصالات كثيرًا من قبضة السلطة ووصايتها على المجتمع بما وفرته من وسائط خارجة عن السيطرة

الجديد المضحك والمؤلم في آن هو أن السيسي نفسه دخل في سباق مزايدة مع دراويشه، فقام بإقصاء عدد من الوجود الإعلامية "المارقة"، وأحكم سيطرته على منافذ وصول هذه الوجوه إلى الجماهير، يساعده في ذلك كتيبة مخلصة من رجال الأعمال والإعلان والعسكريين السابقين. الهدف من ذلك، كما نعلم جميعًا، ليس حماية البلد، ولكن حماية الرئيس من النقد، وحبس أصوات الغاضبين والمحتجين، وتفريغ المجال من كل ما من شأنه تعكير مزاج الرئيس. والنتيجة غالبًا لن تكون في صالح هذا النظام المتمادي في غبائه، الذي لا يتعلّم أبدًا من دروس الماضي القريب، فتنفيس الغضب من خلال الاحتجاج السلمي والنقد الإعلامي، يقلل كثيرًا من احتمال اختزان الغضب وتحوله إلى طاقة للتفجير والعنف، لن تُلقي بالاً لميليشات رسمية مسلحة تقف أمامها في الشوارع.

هذه العقلية الفاشية التي تعتبر كل نقد واحتجاج على ممارسات السلطة بمثابة دعوة إلى الفوضى والتخريب، لا تختلف كثيرًا عن المنطق الإسرائيلي الذي يسعى لإرهاب الناقدين للسياسة الإسرائيلية وملاحقتهم بتهمة العداء للسامية! وهي ذاتها التي أضافت مطلبًا آخر رددته بعض كتابات هذه الأيام والذي دعا إلى إعلان الحرب على مستخدمي الإنترنت ومطالبة الحكومة بالتدخل لوقف "فوضى الاستخدام الخاطئ والمجرم" للإنترنت في نشر الشائعات وتضليل الرأي العام، وهي التهمة التي تنطبق تمامًا -يا للمفارقة- على ما كانت تقوم به الأجهزة السيادية الغامضة في سنتي حكم المجلس العسكري وما تلاه من سنوات.

هذه الدعوات فاشلة بجدارة، لا تعيدنا فقط إلى الوراء ولكنها تمثل إعلانًا للحرب على حركة التاريخ، وهو أمر متناسب تمامًا مع العقلية التي تحكم مصر. هذه الأساليب ثبت فشلها من الناحية العملية، ذلك أن ثورة الاتصالات أضعفت كثيرًا من قبضة السلطة ووصايتها على المجتمع، بما وفرته من وسائط خارجة عن السيطرة، وهناك سباق شهدته السنوات الأخيرة بين الأنظمة السياسية التي تصرّ على إحكام سيطرتها على مجتمعاتها، وبين التطورات التكنولوجية التي تفتح أبوابًا مستمرة للإفلات من ذلك التربص.

مثل هذه الرسائل الإعلامية التي تطلق هذه الأيام تعزّز شعورنا بالتشاؤم والإحباط، إذ بدلاً من تبنّي الدعوة إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي، الذي يُلبّي أشواق الناس ويمتصّ شعورهم بالغضب والاحتجاج، فإنها تلجأ إلى إغلاق النوافذ وتكميم الأفواه وقطع الألسنة، حتى لا تصدر أصوات الاحتجاج، حتى ولو كانت خافتة. وحين يتردّد هذا الكلام قبل وقت قصير من إعلان قانون تنطيم الإعلام والصحافة، فإننا نصبح بإزاء أفق يزداد قتامة يومًا بعد يوم، ومستقبل لا يبشّر بالخير. صلّوا من أجل أن يلطف الله بنا في ما هو قادم!

اقرأ/ي أيضًا:

كواليس النصب باسم الرئيس

مصر..إعلام برتبة شريك في الفساد