طلبت مني منذ فترة طويلة أن نكف عن دردشات الفيسبوك، وأن نتراسل مثل ما كان يفعل كافكا وميلينا.

الرسالة الأولى

هل تذكر أول لقاء لنا؟

أعلنت الشاشة عن وصول الرحلة رقم 3501، كنت أحلم دائمًا بأن أستقبلك في المطار مثلما يفعل أبطال الأفلام، واليوم تمكنت من تحقيق ذلك. طال انتظاري إلى أن فرغت القاعة من القادمين، ظللتُ واقفة لوحدي باحثة عنك بعينين حائرتين، هل تفعلها وتخلف موعدك؟ ألم تفعلها سابقًا وتركتني أنتظر لساعات، وأحيانًا لأيام، أمام حاسوبي، لكن الأمر مختلف هذه المرة فقد تجاوزنا الافتراضي الى الحقيقة.

أكره هذا الكر والفر، أكره مزاجيتك وأنانيتك وتباهيك. أصبحت أخاف العودة إليك كلما ظهرت بعد غياب، تعود ثم تختفي فجأة وتنقطع أخبارك، كأنك لم توجد وكأنني كنت أحدث شبحًا. تغلق هاتفك وحسابك، يأكلني القلق وتنهشني الهلاوس، الفراغ قاتل في غيابك والتعود عليك موت بطيء.

هل تذكر أول لقاء لنا كان في الرابع من شهر أبريل منذ أربع سنوات؟ يومها نزل المطر بشكل غزير، دخلت المطار وأنا أداري اضطرابي فلم اعتد استقبال أحد. أنت أول من أقف أمام شاشة وصول الرحلات القادمة من شتى بقاع العالم لكي أنتظره.

أحب كتاباتي عنك. أصنع جسرًا من الجمل عله يصلني بك يومًا. أحب الشوق الذي يسكن كلماتي علني إذا كتبتها وسال حبرها على الورق خفف من وجع المسافة.

حين أفكر بك، أفكر برجل خيّل إليه أنه يمتلك كل شيء، إلا أنا. أكتب عنك حين أشتاق إليك وأغمض عيني عن حياة أخرى في بلاد أخرى يسمونها البيضاء.

هل تذكر أول قبلة لنا؟

بعد أن وجدنا فندقًا جيدًا يمكننا تمضية ليلتين فيه دون أن نضطر لدفع مبلغ طائل، حملنا الحقائب ودخلنا المصعد، وفي اللحظة التي أغلق فيها الباب نظرت إليّ وقلت في صيغة الأمر "قبّليني"، ففعلت وكيف لي ألا أفعل؟ كان للقبلة مذاق مختلف ربما بسبب القبل الافتراضية التي اعتدنا تبادلها، فجاءت الحقيقية مغايرة لها بنكهة مركزة أكثر.

هل تذكر آخر مضاجعة لنا؟

أفقنا يومها حوالي السابعة ونصف صباحًا. راسي يؤلمني بسبب ارتطامه بالحائط ليلة البارحة أثناء نزال دام لأكثر من ساعة، انتهى بنا ممددين على الأرض كذئبين قد اعياهما الاقتتال. جلست على حافة السرير تنفث دخان سيجارتك، لم يكن المشهد مغريًا لكن رغبتي فيك كانت كبيرة مررت أصابع قدمي من أسفل ظهرك إلى أعلاه، ثم سحبتك من رقبتك جاعلة جسمك يسقط نحوي سقوطًا حرًّا كحجر داخل بركة ماء محدثًا من حوله آلاف الدوائر، لم يستغرق الأمر كثيرًا، بل إنه لم يتجاوز النصف ساعة. كانت مضاجعة بنكهة الفراق فكلانا كان على يقين بأن اللقاء سيكون مؤجلًا لأجل غير مسمى.

"نادرا ما نجد في صندوق البريد شيئًا جديرًا بالاهتمام ومع ذلك، نستمر في انتظار الرسائل"، صادفت قراءتي هذه الجملة لفرجينيا وولف وصول رسالتك، لا يمكنني إنكار أنني لم أكن أنتظرها.

الرسالة الثانية

هل سبق وأخبرتكِ أنك قد أنقذتني من الجنون؟ انعزلتُ كثيرًا وصرتُ منفصلًا عن الواقع انفصالًا تامًا، لم أكن أفكر في شيء غير شخصيات رواياتي، لهذا كنت أكتب بسرعة كأنها طريقة للتخلص من هلوساتي، حتى صادفتك هنا: شهية، مثيرة، تحب كتبي وترغب في، جعلتني أشعر أنني ما زلت حيًّا.

كنت كسمكة علقت بصنارتك، بدأت بسحبي خارج البحيرة السوداء التي أنا فيها، سحبتني من قاع سحيق كلما غصت فيه أكثر ازداد السواد من حولي وحالت أشعة الشمس عن الوصول إليه، لم تكن يدك شديدة على خيط الصنارة بل كنت لينة حركتك مدروسة، ترخينه متى أحسست بالصد وقوة الغوص إلى القاع من جديد فأتوهم أنني أسيطر على الوضع، وأنني أملك هذا القاع ولا أهابه، ثم تعودين إلى سحبي للأعلى برفق حتى صرت على السطح من جديد، ساعتها أحسست بدفء أشعة الشمس وسرتُ في حياةٍ اعتقدت أنني قد تخليت عنها.

اليوم كنت أدخن في الشرفة مراقبًا نزول المطر. تذكرتك فرائحته تشبه الرائحة التي تنبعث منك عندما تتعرقين. ليس هذا فقط ما جعلني أتذكرك، بل المشهد وتوقيت نزول المطر. اليوم هو الخامس من شهر أبريل الموافق لسنة ويوم على آخر لقاء لنا، اتجهت ليلتها إلى الشرفة وفتحتها ثم ملت بجذعك على الباب وأخذت في تدخين سيجارة، "سوف تمرضين" قلتُ طالبًا منك الدخول فهززت كتفيك بلامبالاة، ثم واصلت النظر إلى اللاشيء. عندما انتهيت منها رميت بعقبها من الشرفة ثم اندسست تحت الغطاء تكورت في وضع جنيني ونمت، لم أسألك في الغد عن سبب تغيرك المفاجئ أو عن ما شغل بالك ساعتها.

أود أن أسافر إليك، أن نلتقي مجددًا. هل ستنتظرينني هذه المرة؟ هل ستكونين هناك كما فعلت في كل المرات السابقة، حتى حين خذلتك ولم أحضر؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

يوميّات ناقصة

كما لو أنهم جاؤوا ليدخلوا في منافسة الرحيل