07-أغسطس-2016

في عام 1881 كان داروين شخصية بارزة، لا تزال تعمل على إسهاماته في الفكر التطوري الذي كان له تأثير كبير على العديد من مجالات العلوم. بورتريه رسمه له جون كولير

انظر إلى صورة داروين؛ لن ترى سوى نظرة عميقة الصمت جامدة لا تدل على شيء لا سلبًا ولا إيجابًا، فقط وجه رسم خطوطه تجاعيده الزمن في جولات طويلة مع الألم والبحث والتفكير والتأمل، ألم مرض مزمن لازمه طوال الجزء الأكبر من حياته وألم فقد الأحبة، والبحث خلال سنوات الرحلة في الغابات والجزر والبحار، والتفكير فيما رأى ليس هناك حمل أثقل من أن ترى الحقيقة، وعزلة التأمل في الحقيقة وحدك وتحمل صعوبة النشر وحدك. تعلم في داخلك يقينًا أن ما بعقلك الآن سوف يضع نقطة لما سبق ويبدأ عصرًا جديدًا من الفكر ورؤية جديدة للحياة، لماذا أنت؟ لأنك رسول الصدفة. لن نتحدث عن التطور بل عن داروين، تجربة أن تكون تشارلز داروين.

بدايتك تقليدية وغير مثيرة للاهتمام يا داروين

كان جمع الخنافس مثيرًا لاهتمام داروين عن الدراسة، وتلك هي النشأة التي أرادها لنفسه، فكان عضوًا بناد مهتم بالتاريخ الطبيعي

كان لداروين نشأتان متوازيتان، نشأة أرادها له والده فعمل داروين معه كطبيب متدرب في علاج الفقراء ثم أدخله والده كلية الطب، فوجدها دراسة مملة ووجد الجراحة مقلقة فأهمل في دراسته؛ ما أغضب والده فأرسله إلى كلية المسيح بكامبريدج؛ ليصبح رجل دين في الكنيسة الإنجيلية لكنه فضًّل ركوب الخيل والرماية وأهمل الدراسة مرة أخرى. كان جمع الخنافس مثيرًا لاهتمامه عن الدراسة، وتلك هي النشأة التي أرادها لنفسه، فكان عضوًا بناد مهتم بالتاريخ الطبيعي، وكان يساعد بعض العلماء في أبحاثهم عن التشريح وتعلم تصنيف النباتات، وشارك في العمل على تشكيلات النباتات في متحف الجامعة، وبهذا أصبح له نشاطه الخاص في التاريخ الطبيعي والتشريح وتصنيف الكائنات الحية، وأصبح صديقًا مقربًا من أستاذ علم النباتات (جون هنسلو) صاحب الخطاب الذي سيغير مجرى حياة داروين ويوجّه سفينة حياته إلى طريق غير متوقع. ذلك الشاب المتردد المهمل أو كما يعتبره والده ولدًا لاهيًا لا يهتم سوى بجمع الفئران والخنافس وصيد الطيور، وسيكون مصدر عار لعائلته ولنفسه، ولكنه سيصنع تاريخًا جديدًا للعلم.

خطاب واحد يمكن أن يغير حياتك للأبد

تلقى داروين خطابًا من (هنسلو) يدعوه فيه؛ ليكون رجل الطبيعة على السفينة (بيجل) خلال رحلة مدتها أربعة أسابيع لاستكشاف ورسم حدود ساحل أمريكا الجنوبية، في بداية الأمر اعترض والده على الرحلة باعتبارها مضيعة للوقت، وكاد أن يمنعه من القيام بها لولا أن أقنعه أحد الأقارب بأن يترك داروين يلتحق بالرحلة، ولكن تلك الرحلة لم تقتصر على الأربعة أسابيع فقط بل استمرت لما يقارب خمس سنوات تسلل فيهم الشك إلى نفسه، وأثارت في عقله أفكارًا جديدة لم تكن محل اهتمامه فيما مضى. رحلته على السفينة (بيجل) بدأت معها رحلة داخل عقله في بحر من ظلام العزلة والشك وساعات التأمل والتردد.

الحقيقة، قد رآها قبلك الكثيرون، لكن تلك المرة أنت من رآها

قضى أيامه على السفينة كعالم تاريخ طبيعي وبيولوجي ميداني يقوم بجمع العينات، وفي أثناء الرحلة وبعد العودة عمل داروين على التدوين في دفاتر الملاحظات الخاصة به عن ما أسماه (التحول)، في البداية لم يتعد الأمر كونه ملاحظة عن التغايرات في الكائنات الحية التى رآها أثناء رحلته على سفينة (البيجل)، فبدأ في تسليح عقله الباحث عن الحقيقة بالعلم؛ لينير ما تبقى في طريقه من ظلام أملًا منه أن يصل إلى تلك الحقيقة بيقين. بدأ في قراءة مجموعة من الكتب في فلسفة العلم وعن تربية الحيوان والنباتات وكل ما يخص الوراثة والتغاير في الأنواع، ووجه أسئلة مبهمة لأي شخص قد يعرف أي شيء عن تلك الموضوعات.

قد تكون شجاعًا، ولكن هل أنت شجاعًا بما يكفي لتدخل دائرة من الغموض والتساؤلات المليئة بالمخاطر؟ -قد لا تخرج منها-

مع مرور الوقت بدأ يملك الإجابات، ولكن أي إجابات تكفي ما هو بصدد التوصل إليه! فلم تكن تعني الإجابات سوى المزيد من التساؤلات، فإن كان التغير في الأنواع يمكن ملاحظته فما هي كيفية حدوثه؟ لكن على أي حال بدأت مرحلة الزهو بالنفس، فتغيرت تعبيراته في الكتابة من (النظرية) إلى (نظريتي) حتى وإن لم تكتمل بعد، وتزداد الثقة مع زيادة عدد صفحات دفاتره، قد تحدّدت النظرية بشكل ما لكن لا يزال هناك أسئلة -الكثير منها-، وكان التأمل والتفكير فيها (أقصى الجهود مشقةً وإيلامًا للعقل). وليبدأ تأملًا طويلًا كان يحدّث نفسه قائلًا "انظر للعالم حولك، هيّا ادرس تدرُج الأشكال الوسيطة، ادرس التوزيع الجغرافي، ادرس سجل الحفريات، تدبر كل الأدلة وعندها البنيان يتهاوى" -يقصد بنيان التاريخ الطبيعي اللاهوتي -.

اقرأ/ي أيضًا: أحمد زويل واليقين المراوغ

إرهاق ذهنك بالأفكار قد يمرض جسدك

عمل داروين على أبحاثه وكتاباته عن أفكاره في دفاتره، فعمل ذلك على إمراض جسده. ظهرت أعراض مرضه المزمن من خفقان للقلب وغثيان وصداع وانتفاخ في البطن وهياج عصبي، أبطأ مرضه من عمله، جعله المرض بائسًا ربما ابتلته به السماء، ولكن منذ متى تبتلي السماء باحثًا عن الحقيقة؟ كان يزيد من مرضه كثرة الاختلاط الاجتماعي وكثرة الحديث والجدل، كان يكفي مجرد أن تطرأ على ذهنه فكرة الأحاديث والنقاشات؛ ليثير ذلك من مرضه، كل هذا يضاف إلى ما حمّلته به تلك الرحلة من تساؤلات جعلت الصدفة من مسئوليته الإجابة عنها. كانت حياته على المستوى النفسي والجسماني في تدهور، أما عن المرض فلم يجد له علاجًا، لكن العزلة ومرض النفس قد تخفف من شدتهما الرفقة، فلم لا يتزوج؟

رفيقة تضيء ظلام عزلتك

كانت النقود والزواج هما ما يؤرقانه في تلك الفترة، فمن المؤكد أنه يحتاج إلى المال؛ ليعيش وينفق على أبحاثه ورحلاته، ولم يكن يدرى حجم ثروة والده ومدى كرمه في إنفاقه عليه. وإن ما يملأ العقل يُفقد الروح من الأُنس، ولذلك فكر في الزواج، وأحضر ورقة وكتب عليها "أن لا أتزوج"، وبدأ يعدد مزايا عدم الزواج التي انتهت بأن يكون أستاذًا في كامبريدج، وكتب "لو تزوجت!" عندها سيصيبه الشعور بالواجب لا مزيد من الأبحاث وجمع العينات ولا المزيد من الكتب، فقط بيت في ريف لندن يملأه الدخان وزحمة الزوجة والأطفال وانتهى تصوره بأنه سيكون رجلًا فقيرًا. إما رجلًا فقيرًا أو أستاذًا في كامبريدج -هكذا فكر-.

في إحدى رحلاته مر بمنزل الأسرة، فحدثه والده عن الزواج، فقال له مازحًا أن عليه الزواج مبكرًا؛ حتى يحظى بأطفال، وعليه ألا يقلق من مسألة المال؛ فسيكون لديه الكثير، فتوقف عن القلق من المال وأعاد التفكير في الزواج مرة أخرى. كالعادة في ورقة ولكن هذه المرة بعد أن زال قلق المال، فبدأ بتعديد مزايا الزواج، أن يكون معك زوجة رقيقة رفيقة وصديقة لك في عمر الشيخوخة، فلم يكن يتصور في الزوجة أكثر من الرفقة؛ ليكسر ما يحيط به من عزلة، حياة العزلة تلك التي فرضها عليه ما وصل إليه، لم يكن ليكسر تلك العزلة سوى روح تشاركه شكوكه، وتحمل عنه ما لم تطقه نفسه، وإن لم تحمل عنه فالأُنسة أفضل من ضيق العزلة.

لم يعد يرى الحياة كما هي خلق مباشر، بل يراها شجرة لها جذع ينقسم منه فروع، وينتهي كل فرع نهاية مختلفة، هناك الطيور، وهناك الثدييات، وينتهي آخر بالحشرات

بينما هو غارق وسط إحساس الخطر والانفعال والعزلة وثب إلى القطار؛ متجهًا إلى بيت خاله وطلب يد (إيما) ابنة خاله للزواج، طلب مفاجئ أصاب (إيما) بالارتباك وموافقتها الفورية أصابته بالذهول، تراهم العائلة ثنائيًا مثاليًا ولكن كيف ذلك و(إيما) لديها مسيحيتها الورعة المؤسسة على الكتاب المقدس، ولداروين ما حدث له مؤخرًا من غياب الإيمان، قام داروين بالحديث عن شكوكه لـ(إيما) خلافًا لنصيحة والده، فقال لها ما يكفي عن أفكاره لتسميها (إيما) "الفراغ المؤلم بيننا"، ولكنها طمأنت نفسها بأن الشكوك النابعة من ضمير حي، لا تعد خطيئة، لم تكن تعلم أن الشكوك الأمينة تنتهي إلى الحقيقة حتى لو لم ترضنا.

بعد الزواج أصبح داروين يكن لها حبًا -قد يكون فاترًا-، لكن امتنانه لها قوي ومخلص لأنها قبلت شخصًا مثله، فقد بدأ يشعر بتميُّز أفكاره مبكرًا، وسبقه عقله بفرض رفض المجتمع لتلك الأفكار قبل أن يخبر بها أحدًا. سجل والد داروين ووالد (إيما) مبلغًا من المال في المقاطعة بفائدة تكفي لإعالتهما، وهكذا لن يقلق داروين بما يخص المال مرة أخرى. تم الأمر في كنيسة صغيرة واحتفال بسيط هادئ يمكن اعتباره مقدمة لشكل الحياة بينهما بسيطة وهادئة وانتهت الاحتفالات سريعًا، فقد كان عليه أن يعود للعمل.

من أفكار إلى نظرية، نظريتك نظرية جسورة كما وصفتها (كل نوع يتغير)

لم يعد يرى الحياة كما هي خلق مباشر، بل يراها شجرة لها جذع ينقسم منه فروع، وينتهي كل فرع نهاية مختلفة، هناك الطيور، وهناك الثدييات، وينتهي آخر بالحشرات -وهكذا-، كلها أفرع من جذع واحد. ثم كتب "السماء وحدها تعرف هل يتفق هذا مع الطبيعة: الحذر، الحذر". هكذا كتب في أحد دفاتره. كانت دفاتره مليئة بالأفكار والتساؤلات والشكوك، لماذا تملك كائنات حية أعضاء ضامرة لا تستخدمها أو لها أطراف صغيرة أكثر بدائية من أن تكون مفيدة؟ لماذا قد يخلق الإله شيئًا ليس بذي فائدة عبثًا كهذا؟ يريد داروين القلِق إجابات لا يريد تبريرات. عند بداية أحد دفاتره كتب داروين "نظريتي نظرية جسورة" وذكر أن نظريته تذكر حقيقة أن الأنواع تترابط فيما بينها من خلال سلف مشترك، الحيوانات لا تتحول من نوع لنوع آخر بل أسلاف مشتركة بينهم، تزداد التغايرات مما ينتج أنواع جديدة، تلك (الحقيقة) توصل لها عبر التأمل وملاحظة الحقائق، ولكن تبقى له آلية حدوث هذا التغير في الأنواع.

في أحد دفاتره الصغيرة كان هناك بعض الفقرات الغامضة والمبهمة عن الدين، لم يكن محور كتابته فيها عن الدين بدافع التقوى بل رغبة في تفادي الصراع الحتمي مع أفكار اللاهوت الطبيعي والهيئة العلمية والكنيسة والمجتمع أيضًا. لا أدري أكان إخلاصه للحقيقة يمنحه الشجاعة للمواجهة ومواصلة البحث أم مزيدًا من العزلة والتردد، ولكنه واصل البحث. بدأ داروين القراءة أكثر في التاريخ الطبيعي اللاهوتي وفي كتب أخرى حتى قابل مقال القس (مالتوس).

اقرأ/ي أيضًا: في ضيافة فولتير

ضع الحجر الأخير في بناء النظرية، وضربتك الأخيرة لبناء التاريخ الطبيعي اللاهوتي

رأى مالتوس أن تزايد عدد البشر متوالية هندسية (1-2-4-8-16-.)، بينما زيادة الموارد متوالية عددية (1-2-4-6-8-10-.). تدبر داروين في دفتر ملاحظاته الحروب بين الأنواع كوسيلة لحدوث التوازن بين التكاثر والموارد المحدودة وخرج بآلية أسماها فيما بعد (الانتخاب الطبيعي). بدأ دفتر آخر بكلمة "نظريتي"، زال بعض الغموض المحيط بالأفكار، وبدأ في الترابط والتكامل بعد كثير من التأمل، تراكم التغيرات في الذرية نتيجة التكاثر بالجنس ينتج صفات جديدة بشكل عشوائي بعد آلاف الأجيال، مع الانتخاب الطبيعي للصفات الأصلح وعامل الزمن أصبح لديه الآن نظريته (التحول).

لم يكن محور كتابته في دفاتره عن الدين بدافع التقوى بل رغبة في تفادي الصراع الحتمي مع أفكار اللاهوت الطبيعي والهيئة العلمية والكنيسة والمجتمع

سؤال: الإنسان؟

كتب داروين في أحد دفاتره وهو يحلل أفكاره وأكثرها خطورة "ولكن الإنسان -الإنسان الرائع- استثناء لذلك" أعاد التفكير ثم تلا ذلك بعد ثلاثة سطور "لا الإنسان ليس استثناء" الإنسان والحيوان لهما جسد من طراز واحد، هناك صعوبة في النظر في أمر العقول، ثم أضاف "ولكنني لن أتهرب من هذه الصعوبة" -البحث عن القوانين الأساسية المسببة لحدوث التغاير في الذرية نتيجة الجنس بشكل عشوائي (خلاف رغبة السماء)-" في تلك المرحلة كان داروين يرى أن الإله يحكم الكون بقوانين وليس بإرادة تفصيلية، فدوران الكواكب يحدث نتيجة وضع قوانين الجاذبية وليس هناك إرادة تفصيلية للإله تحدد سرعة واتجاه كل كوكب على حدة. حتى هنا تحدث في كل شيء عدا فكرة أصل الإنسان ظلت أفكاره عنها داخل عقله فقط.

فكرة (أصل الإنسان) القوية والرهيبة على الرغم مما سببته له من ضغوط فيما بعد لم يتراجع عنها قط. الآن يجلس وحيدًا إلى مكتبه تعصف بعقله فكرة لا يمكن اعتبارها مجرد حجر يلقى في مياه علم التاريخ الطبيعي الراكدة، بل ستجفف المياه ليبدأ بها مجرى جديد لمياه العلم. ظلت الأرض هي محور الكون حتى وضع (كوبرنيكوس) نظرية مركزية الشمس، وأكدها (جاليليو) عندما رآها بمنظاره، فتغيرت نظرة الإنسان للأرض، وأصبحت مجرد جرم سماوي يدور حول الشمس مثله مثل باقي الكواكب. هل يستطيع داروين أن يصرّح بتلك الفكرة؟ لن يظل بعدها الإنسان ذلك الكائن المميز المُسخر له كل ما في الأرض، بل نتاج العشوائية والصدفة غير الموجهة. عليه أن يختار بين الخوف من مواجهة الكنيسة والمجتمع وأسس العلم السائد أم احترام قدسية الحقيقة والتصريح بها أيما كانت عواقبها، اختار الحقيقة نشدها كاملة، فظل مترددًا.

فكرة (أصل الإنسان) القوية والرهيبة على الرغم مما سببته له من ضغوط فيما بعد لم يتراجع عنها قط

خطوات على الطريق وحياتك هادئة

بحلول ربيع 1842 أصبح داروين مؤلفًا مشهورًا بفضل النجاح المفاجئ لكتابه (يوميات من رحلة السفينة بيجل) وأصبح والدًا لاثنين بفضل (إيما). وكذلك انتخب زميلًا للجمعية الملكية -المنتدى العلمي الأول في بريطانيا-، ولكنه ما زال حبيس منزل قبيح في صف من البيوت في لندن الملوثة الصاخبة، لم يكتب شيئًا عن نظريته سوى تلك المتفرقات في كتيبات ملاحظاته ولم يتحدث عنها في العلن سوى في إشارة بسيطة لصديقه (ليل). انقطع عن الكتابة في أمر التحول لثلاث سنوات كان رفيقه فيهم المرض، رفيق لن يتركه فيما تبقى من حياته، أما (إيما) فكان عملها كممرضة له وراعية للمنزل والأطفال يكفيها ويملأ وقتها، كانت علاقتهما مستقرة عدا ما يخص أفكاره، فكانت دائمة القلق فيما يخصها، ولم يعد سبب تقبلها للأمر -شكوك مخلصة- يكفي، فتزايد قلقها فيما يخص بقاءهما معًا للأبد فلن تنجو روحه، ولكن داروين اكتفى بأن يترك الموضوع يذهب طي النسيان. وكان أكثر ما يرضيه ناحية (إيما) هو تسامحها في عاداته التأملية الانعزالية.

اقرأ/ي أيضًا: الحياة العاطفية للفلاسفة

كان له خطط فيما يتعلق بباقي مؤلفاته التي ينوي كتابتها فيما يخص (علم الحيوان) حصيلة رحلته على السفينة (بيجل)، فكان المرض ومؤلفاته ودوره كأب وزوج يأخذ من وقته، أما تفكيره وتأمله فيما يخص التحول فقد كان يشغل تفكيره في أيام العطلات، كان يستغل تلك الأيام في إيجاز ما توصل إليه من أفكار ودعمها بالمزيد من الحجج والبراهين فأنهى مخططًا مترابطًا وصل لما يقارب خمسًا وثلاثين صفحة كان البداية الحقيقية للكتاب على عكس دفاتر الملاحظات.

بداية جديدة في داون

بعد حدوث عدة اضطرابات في لندن وجد داروين و(إيما) أنه الوقت الأنسب لتركها والسكن في الريف في قرية داون، بيت كان يسكنه قس القرية فيما مضى وتُرك خاليًا، ولكن الآن يسكنه داروين. كان حضور الناس واجتماعهم يمثل مزيدًا من المرض لأمعائه الضعيفة، فكان يتجنبهم. الثرثرة النشطة تجعله منفعلًا، والانفعال يجعله أكثر مرضًا. فآثر أن تظل مناقشاته العلمية عبر البريد، فاستخدمه لمراسلاته العائلية ومع أصدقائه وفي طلباته العلمية، كان يطلبها بتملق واعتذار ولكنه كان كثير الإلحاح فيما يخصها.

قد يقتلك المرض فلا تترك شيئًا للصدفة

أنهى داروين مسودة من 189 صفحة وأرسلها لتكتب بخط يد مقروء، ودسها في مكان بعيد بمكتبه ومعها خطاب لـ (إيما) يخبرها فيه عن أهمية النظرية باعتبارها خطوة لها قدرها في العلم، وكان محركه الأساسي في هذه الخطوة هو خوفه من موت مفاجئ بسبب مرضه وتقديره لأهمية ما توصل إليه، ورغبة في تجنب النقاشات لما ستسببه له من زيادة في المرض، فنشْر النظرية بعد موته سيوفر عليه الكثير من المشقة وعناء الجدل، وأخيرًا بحثه عن الحقيقة كاملة فكان دقيق النظر وكثير البحث والتأمل، لم يكتف بالنظرية في شكلها البسيط بل كان يريد إثراءها بما يكفيها من براهين وحجج على قدر أهميتها حتى تنال من الاهتمام ما يتوقعه.

توقُّف

في تلك الفترة نُشِر كتاب اسمه (الآثار) لكاتب مجهول نال به شهرة واسعة جدًا تكلم فيه بلغة سهلة وبسيطة عن علوم مختلفة كالجيولوجيا، وعلم الحيوان، والفلك، وتحدث عن التحول وأنه أداة الله في الخلق لتوليد أنواع أرقى كالإنسان، أصاب هذا الكتاب داروين بالمرارة الشديدة، فالكتاب بلغ من البساطة حدًا يسهل معه نقده والسخرية من فكرة التحول من قِبَل النقاد العلميين، كما أصاب المجتمع بتخمة فيما يخص التحول فلم تكن الفترة مناسبة لداروين لينشر كتابًا آخر يتحدث فيه عن التحول.

كانت بريطانيا تمر بفترة اضطرابات بسبب دعوات من العمال وقادة لهم يحملون شعارات المساواة، وداعمين موقفهم بالأفكار مثل اللاماركية والتحول، وبينما داروين يعد من أثرياء بريطانيا حينها، فأي محاولة منه للنشر ستصب لصالح تلك الدعوات؛ مما قد يضره ويضر بالنظرية، ويبعدها عن ميدان النقاش العلمي ويدخلها ميدان السياسة.

كان يعلم أن ما توصل إليه بأفكاره سيثير قلق (إيما) الورعة على روحه ويعيدها لحديث يُفضل داروين أن يتركه طي النسيان مؤقتًا. كان التحول في حد ذاته لا يثير قلقه، ولكن تبعات النظرية وما ستثيره من أسئلة حول أصل الإنسان، وهل هو منحدر من الحيوان، هذا ما كان يثير قلقه. المرض الجسدي مرآة اضطراب عقله، كثيرًا ما جلس على الأريكة في غثيان وخمول تراكم لأشهر فقد أخّره المرض كثيرًا وأقل من إنتاجيته. إدراكه لحجم مهمته وتأنيه في جمع المعلومات وتدقيقها ونسج الحجج والبراهين على نظريته؛ حتى تكتمل. كل تلك العوامل جعلت داروين يفضل الابتعاد مؤقتًا عن نظريته والعمل على مشاريعه الأخرى. توقف داروين بعد واحد وعشرين عامًا من العمل، توقف مؤقتًا، ولكنه هدوء يسبق العاصفة.

يتبع.

اقرأ/ي أيضًا:

مهندسون عباقرة: جيري إليسورث مهندسة التعليم الذاتي

البشرية في خطر .. عصر "ما بعد المضادات الحيوية"